"عندما غافلتني ابنتي ذات السنوات الست، أثناء عودتنا من مدرستها، ودفعت بغضب عربة طفلي الرضيع نحو الشارع المزدحم بالسيارات، كانت ردة فعلي لا إرادية، صرخت بأعلى صوتي ووبختها لأنها كادت أن تتسبب بحادث فظيع لأخيها الصغير، أحكمت قبضتي على العربة وسحبتها من يدها مجبرة إياها على المشي وسط الزحام".
هذا ما قالته لي ياسمينة (طلبت عدم ذكر اسمها الحقيقي)، التي قدمت من سوريا لتعيش في لندن قبل نحو ثماني سنوات، أثناء حديثها معي عن سلوك ابنتها العدواني وكيف تم استجوابها من قبل الخدمة الاجتماعية في لندن قبل ستة أشهر.
تظهر الدراسات أن السلوك العدواني لدى الأطفال، سببه كافة أشكال العنف الذي يتعرضون له في مرحلة ما من حياتهم.
ويحدث ذلك في جميع البلدان وفي كل مكان؛ في منزل الطفل والمجتمع والمدرسة وعبر الإنترنت، وفي بعض أنحاء العالم، يكون التأديب العنيف شائعاً ومقبولاً اجتماعياً.
يتعرض العديد من الأطفال، للعنف على أيدي أشخاص يثقون بهم، مثل والديهم أو مقدمي الرعاية والمعلمين والأقران والجيران، مما يعرضهم لأخطار جثيمة قد تطاردهم مدى الحياة.
شعرت ياسمينة بالإحباط والخوف والإحراج في آن واحد، عندما تلقت مكالمة هاتفية من قبل موظفة الخدمة الاجتماعية التي طلبت منها تحديد موعد لزيارتها من أجل مناقشة ما وصفته بـ "العنف ضد طفلتها".
تقول ياسمينة: "كنت أعتقد أنني أم مثالية وعصرية وأقدم لابنتي التي تعاني من صعوبة التعلم، ما لا تفعله أي أم أخرى، لأنني وبدافع حبي وحرصي الشديد على مستقبلها، أوفر لها كل ما يتعلق برفاهيتها من طعام صحي وألعاب ورحلات ودروس خاصة في الموسيقا والرياضة والدراما التي تكلفني مبالغ كبيرة. أقتصد في مصاريفي ونفقاتي وأهمل احتياجاتي من أجل رفاهيتها".
لكن ياسمينة تدرك الآن أنها "ليست مثالية"، وأن أحد أسباب سلوك ابنتها العنيف يعود إلى جهلها ببعض التفاصيل الدقيقة المهمة التي يجب أن تتبعها مع طفلتها.
وتختلف معايير الرفاهية والتربية السليمة للأبناء باختلاف معتقدات المجتمعات والثقافات والبلدان التي ينتمي إليها الآباء والأمهات، ومدى توفر خدمات الرعاية بالأطفال وفعاليتها.
على سبيل المثال، في المجتمعات الشرقية والعربية، تسود العادات والتقاليد والتربية المبنية على أسس دينية وتقاليد متوارثة عبر الأجيال، عدا عن أن التوبيخ وإطلاق الأوصاف غير المحبذة ووصف الطفل بكلمات غير لائقة، أمر شائع.
أما في الدول المتقدمة، تلعب المؤسسات والمنظمات المدنية والمجتمعية، دوراً مهماً في سنّ قوانين تربية الأطفال ورعاية المراهقين وتحديد الأفعال التي تدخل ضمن نطاق العنف ضد الاطفال ومعاقبة مرتكبيها.
وثمة أطفال لديهم سلوك عدواني وعنيف أخطر بكثير مما قد نعرفه، لذلك من المهم جداً معرفة الأسباب التي تدفع بعض الأطفال إلى التصرف بشكل عدواني ومعالجتها، بدلاً من معاقبتهم بطريقة خاطئة وعنيفة لا تولد سوى المزيد من العنف.
من المهم معرفة أن السلوك العنيف لدى الأطفال لا يأت من فراغ، ولا يولد طفل ولديه سلوك عنيف، فمعرفة وفهم الأسباب التي تدفع طفلاً ما إلى اتباع سلوك عدواني وعنيف، يقودنا إلى الحلول الصحيحة.
بعض الأسباب تكون نفسية وعاطفية، يكتسبها الطفل من الوالدين والأقارب والبيئة المحيطة به، فالأطفال مرآة الكبار.
وقد ترجع بعضها لأسباب مرضية، مثل التوحد (الأوتيزم)، لكن لم يتم تشخيص المرض ولا يعلم الوالدان بالأمر، وبالتالي يتعاملون مع الطفل بطريقة صارمة وعنيفة ظناً منهم أن الطفل عدواني، دون أن يدركوا أن هناك خلل في طريقة تعاملهم مع الطفل وليس في الطفل نفسه.
تقول الدكتورة والمعالجة النفسية سحر طلعت: "يعبر الطفل عن استقلاليته في المراحل المبكرة من عمره عن طريق الصراخ وإظهار مشاعر الغضب والتمرد عند منعه من القيام بفعل شيء ما، لذلك، من الضروري جداً فهم احتياجات الطفل النفسية ومنها قبول رأيه ومشاعره وعدم محاولة قمعها أو تغييرها بالقوة".
وتضيف: "الأطفال حساسون للغاية، إنهم يفهمون ويغضبون ويتعلمون من المواقف، فإذا احتوى الأبوان غضب الطفل وعرفا كيف يتعاملان معه في كل موقف بدون ترهيب أو تخويف أو قمع لمشاعرهم، سيتعلم الطفل من تلقاء نفسه من التجربة، لكن هذا لا يعني أن يستسلم الآباء لجميع طلبات الطفل ويمنحوه ما يرغب، فيتعلم الطفل من ذلك أنه يستطيع الحصول على أي شيء بمجرد أن يصرخ أو يظهر غضبه".
التوازن شيء مهم في علاقة الأبوين مع أطفالهم، فلا الشدة ولا المرونة المفرطة تؤت بالنتائج الجيدة.
وقبل محاسبة الأطفال أو معاقبتهم على سلوك سيء "يجب على الأبوين مراقبة أنفسهما والبحث عن الخطأ في طريقة تربيتهما لأنهما يمثلان قدوة ومثالاً لأطفالهما" كما تقول طلعت.
وبالعودة إلى ياسمينة، وسؤالها عما لو كانت ملمة بطريقة تربية ابنتها أم لا، تقول: "أعلم أنه علي التعامل معها بطريقة الشرح والإقناع والصبر، لكنني بشرٌ أيضاً، أخطئ أحياناً وأصيب في أحيان أخرى، ولست خبيرة أو مثالية كما ظننت، لذلك طلبت من الخدمة الاجتماعية أن ترسل لي مدربة أطفال إلى منزلي لقضاء بعض الوقت معنا وتوجيهي حول كيفية التعامل مع سلوك ابنتي".
في المجتمعات العربية، التشخيص المبكر للتوحد وصعوبة التعلم، ليس شائعاً لذا يظن الناس بأن الطفل الذي يولد ولديه صعوبة في التعلم، غبي أو متخلف عقلياً، وهذا ما يفاقم حالة الطفل.
لدى جوانا (39 عاماً)، ابنة ولدت بمرض الأوتيزم، تم تشخيصها منذ أن كان عمرها عاماً.
تقول جوانا إنها محظوظة لأنها تعيش في بلد أوروبي، وتم تشخيص مرض ابنتها في سن مبكرة.
"أخي لديه نفس المرض، لكننا لم نكن نعرف أو سمعنا بمرض يدعى صعوبة التعلم، عندما كنا في سوريا، كنا جميعنا بمن فيهم والداي، نظن أن شقيقنا الأصغر غبي وكسول، لكنني الآن أشعر بالذنب تجاهه، لأنني أعلم أن أخي لم يكن غبياً أو أي شيء من هذا القبيل، بل كان من ذوي الاحتياجات الخاصة، وكان الخطأ فينا نحن لأننا لم نميز أن لديه احتياجات خاصة ولم نعامله بعدل".
وتضيف: "أخبرت جميع إخوتي وأخواتي عن وضع أخي، لوجود تشابه كبير بين سلوكه وسلوك ابنتي، ليتوقفوا عن إلقاء اللوم أو محاسبته على الأخطاء التي يرتكبها، ففهمه وتقييمه للأحداث والحلول التي يجدها لنفسه، تختلف تماماً عن طريقتنا".
يعاني الأطفال المصابون باضطراب فرط الحركة وتشتت الانتباه من خلل في النمو العصبي لديهم، ما يؤدي إلى تشتت التركيز وعدم التحكم بتصرفاتهم أو تهورهم الذي قد تكون له عواقب خطيرة، ويجدون صعوبة في ضبط النفس عندما يُطلب منهم التحلي بالهدوء.
وإذا لم يكن الآباء مدركين لهذا المرض وأعراضه وطرق التعامل معه، سيتصرفون بطريقة قاسية وعنيفة لضبط الطفل، ما يؤدي إلى رد فعل عكسي فيصبح عدوانياً وأشد عنفاً.
تقول فاطمة (41 عاماً) وهي عراقية تعيش في مدينة بريستول : "إن طفلها الذي يبلغ من العمر خمس سنوات تقريباً، ويعاني من اضطراب فرط الحركة، تعرض لحوادث تكاد لا تُصدق".
أخبرتني عن أحد الحوادث التي تعرض لها عندما كان في الثالثة من عمره، حيث قفز من نافذة غرفة نومه في الطابق الثالت، ولحسن الحظ كما تقول، سقط على الشجرة الوحيدة التي كانت أمام مدخل البناء، كما أن سيارة الشرطة شاهدته في لحظة السقوط، فأخذوه إلى المستشفى على الفور.
وتقول فاطمة التي تساعدها الآن موظفة من هيئة معنية بحقوق الطفل، إنها لا تسمح لطفلها بمشاهدة الألعاب أو أفلام الكرتون التي تحتوي على مشاهد المغامرات وحركات القفز أو الضرب أو أي نوع من العنف، لأن ابنها يقلدهم في جميع حركاتهم وأفعالهم دون أن يدرك خطورة أفعاله، يؤذي نفسه أحياناً وأصدقاءه في أحيان أخرى.
ولكن، حتى إن لم يكن الطفل يعاني من أي اضطراب أو مرض ما، فإن مشاهدة الأطفال الأصحاء لأفلام العنف يثير السلوك العدواني لديهم ولو في مرحلة مؤقتة من حياتهم.
لذلك، توصي الأكاديمية الأمريكية للطب النفسي للأطفال، بمراقبة الاطفال وما يشاهدونه على الشاشات الالكترونية، التي تحتوي على الكثير من مشاهد العنف، خاصة عند ملاحظة أي تغيير في سلوكهم المعتاد.
يعاني الطفل من الصدمة العاطفية عندما يتعرض لاعتداء جنسي أو للإيذاء الجسدي، بمعنى أن يكون أحد الأبوين أو أحد أفراد العائلة، يتصرف معه بشكل عنيف فيه الكثير من العقاب الجسدي والتهديد الذي يجعله في خوف مستمر.
فعلى سبيل المثال، معاملة الأب القاسية للأطفال أو لأمهم أو إطلاق الشتائم والصراخ عليهم بصوت عال ووصفهم بألفاظ بذيئة تحط من قدرهم وتمس كرامتهم، يؤدي إلى شعور الأطفال الدائم بالقلق والخوف والغضب أو الاكتئاب الشديد أو جميع المشاعر مجتمعة في آن واحد.
وكرد فعل على كل ذلك، يعبرون عن مشاعرهم وعن أنفسهم بذات الطريقة، سواء كان مع الأقارب أو الأصدقاء أو أي شخص يصادفونه في الحياة، لأنهم يريدون أن يظهروا بمظهر القوي غير المهزوم لتعويض معاناتهم في المنزل.
ولا يخفى أن للفقر والجهل والتنمر من قبل أصدقاء المدرسة والجيران والبيئة المحيطة بالأطفال، دور كبير في ظهور السلوك العدواني لدى الاطفال. لذلك، من الضروري مراقبة سلوكهم وملاحظة أي تغيير قد يطرأ عليهم، وتقصي الأسباب ومعالجتها عن طريق طرح الأسئلة بأسلوب فيه الكثير من الطمأنينة على الطفل.
لكن المشلكة الرئيسية أنه في المجتمعات الشرقية والعربية وغيرها من المجتمعات الفقيرة، لا يولي كثيرون من الآباء الاهتمام بالتفاصيل أو التغيرات التي تطرأ على سلوك أطفالهم، بسبب انعدام ثقافة التربية الإيجابية وأساليبها الحديثة وعدم انتشار ثقافة القراءة والبحث والمطالعة فيما يتعلق بكيفية بناء الأسرة وتربية الأطفال. ناهيك عن بعض الأسباب الأخرى الخارجة عن إرادة الآباء والأبناء، كأن يعاصر الأطفال الحرب ويعيشوا أهوالها ويروا أمام أنظارهم جميع انواع الفظائع التي ترتكب من قبل الأطراف المتحاربة من قتل وأسلحة وجرائم وجوع وتشرد ودمار وغيرها من المآسي.
وكانت الممثلة الخاصة للأمين العام للأمم المتحدة المعنية بالأطفال والنزاعات المسلحة فيرجينيا غامبا، قالت في تقرير لها في وقت سابق: "لا توجد كلمات قوية بما يكفي لوصف الظروف المروعة التي عانى منها الأطفال في النزاعات المسلحة".
وأكدت غامبا، أن الناجين سيحملون معهم ندوباً جسدية وعاطفية عميقة مدى الحياة.
وأشارت إلى أن التقرير هو بمثابة دعوة للعمل من أجل تحسين حماية الأطفال في مناطق النزاعات المسلحة وضمان منحهم فرصة حقيقية للتعافي والازدهار.
لذلك، ومن أجل أطفال أصحاء سليمين نفسياً وعقلياً، يُنصح الوالدان بمراقبة سلوك أطفالهم ومبادلتهم الاحترام وقضاء أوقات ممتعة معهم، وأن يكونوا قدوة جيدة لهم، ومرنين في النقاش وتقبل الرأي المخالف. والأهم من كل هذا إظهار الحب لأطفالهم بدون شروط. حسب بي بي سي
اضافةتعليق
التعليقات