تاخذنا الدنيا على محمل يثقل الأكتاف لنميل مع الريح فيصطف القوم كل منهم في جهة وتخف موازين عقولهم وتثقل موازين الأجساد في ذنوبهم ومنهم من لا يتحرك عقله لثقل بطنه، وفي جهة من عالم موازي تقف العقول باكية على أصحابها كيف بالاهمال أن أوصلها إلى حافة الهاوية فراحت تغربل كل من يحملها حتى أيقنت جهله وركنت نفسها في الزاوية بانتظار معجزة تحمل بين طياتها شحنات كهربائية توقظ هذه الأجساد من غفلتها.
يقفون بلا عقول على مشارف الجهل ويبحثون عن وهم مؤكد بثته في أرواحهم أمم تود لو أنها تزيل بجراحة واحدة كل عقل يبحث عن الاستنارة فكيف بمن وضعوا عقولهم على أكفهم لطلب هذا الخيال، تسير أقدامهم بين الفينة والأخرى وأكتافهم تثقلها الجنائز يضعون الأكباد داخل القبر يتعظون لثوان ثم يذرفون دموع الفراق ويسيروا راحلين مثقوبة حقائب الذاكرة لديهم فيخر واقعا من جيدهم كل ماهو موعظة حسنة حتى يدركوا بوابة المقابر بلا وعظ ولاحكمة.
يذكر أن أمير المؤمنين (عليه السلام) وقد رجع من صفين، فأشرف على القبور بظاهر الكوفة بعدما ألقى السلام على أهل المقابر التفت إلى أصحابه وقال: (أما لو أُذنَ لهم في الكلام لأخبروكم أنّ خير الزاد التقوى).
الشعاع الأول: الصفات الظاهرية لأهل التقوى
أما وإن الله أنعم علينا بأناس ملائكيين لا يحملون في نفسهم سوى عبادة الله وطاعته وما يبتغون من الدنيا سوى رضاه فقد أكرم بنعمة من نعمه أن يكونوا على نهج اتبعناه وحب ورثناه ورضعناه منذ نعومة أظفارنا فما إن بلغت بنا قوة العقل حتى راحت أنفسنا تبحث عن خيط يوصلنا بنعيم الله الباقي الذي هو خير من دنيا زائلة فكان عباده المتقين هم هذا الحبل الوثيق الذي نتشبث به ليمهد أفضل السبل للوصول لله.
وفي نص من خطبة أمير المؤمنين بصفات المتقين على همام وقد كان رجلا عابدا، بعدما بين أن الله ما خلق الخلق عن حاجة ولا يزيدون في عبادتهم له ولا يضرونه إن ابتعدوا فسبحانه منزها متعاليا عن صفات النقص والحاجة في الأزل كما في الابد.
فقال: «منطقهم الصواب، وملبسهم الاقتصاد، ومشيهم التواضع غـضوا أبصارهم عما حرم الله عليهم، ووقفوا أسماعهم عـلى العلـم النـافع لهم نزلت أنفسهم منهم في البلاء كالتي نزلت في الرخاء»، وفي قول ابن ميثم: «الـصواب في القـول، وهـو فـضيلة العـدل المتعلقـة باللسان، وحاصله أن لا يسكت عما ينبغي أن يقال فيكون مفرطا ولا يقول ما ينبغي أن يسكت عنه فيكون مفرطا، بل يضع كلا من الكلام في موضعه اللائق به»، وذكر أميرالمؤمنين (عليه السلام) : «وليختزن الرجل لـسانه، فـإن هـذا اللسان جموح بصاحبه، والله ما أرى عبدا يتقي تقوى تنفعه حتى يختزن لسانه، وإن لسان المؤمن من وراء قلبه، وإن قلب المنافق من وراء لسانه، لأن المؤمن إذا أراد أن يتكلم بكلام تدبره في نفسه، فـإن كـان خـيرا أبـداه، وإن كـان شرا واراه، وإن المنافق يتكلم بما أتى على لسانه لا يـدري مـاذا لـه ومـاذا عليـه».
فكانت هذه الصفة الأولى التي تنظف داخل الانسان من شوائب فما من نفس صافية إلا وكانت عن قلب صادق مستقيم ولا يستقيم هذا القلب إلا عن لسان مستقيم ينطق الشهد في الحق ويسل السيف على الباطل فقد قـال رسول الله صلى الله عليه وآله: «لا يـستقيم إيـمان عبـد حتـى يـستقيم قلبـه، ولايستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه».
صون اللسان: من أخلاق المتقين
فمن أعظم نعم الله تعالى على عباده اللسان، الذي به يبين الإنسان ما يحب وما يكره، ويعبر عن مشاعره ويبث همومه، وهذه أعظم وسائل الاتصال بالآخرين، من أحسن استخدامه واستغله في مرضاة الله تعالى وطاعته، كان نجاته يوم القيامة، ومن تركه دون لجمه قطع روابط الألفة بين الناس، وشتت السلام وقتل الاسلام قولا وزرع بين الناس الحقد والضغائن، وأصبح خبث يسير على حافة الكلمة يملأ صاحبه بالظلم فرغم صغره لكنه عظيم الخطر، لا ينجو من شره إلا من قيده بلجام الدين، فيكفه عن ما يخشى عاقبته في الدنيا والآخرة، والإنسان مسؤول عن كل لفظ يخرج من فمه، حيث يسجله الله ويحاسبه عليه، يقول الله تعالى: (مَا يَلفِظ مِن قولٍ إِلا لَدَيهِ رَقِيبٌ)، «سورة ق: الآية 18»، وقد جاء في وصايا الإمام الصادق (عليه السلام): (حفظ اللسان عن الكلام بالباطل، والكلام البذيء، وكلام اللغو واللهو، وكلام الفحش والفاحش، لأن فيه السلامة والنجاة)، فآفة اللسان في القاء الكلمة الخاطئة تزيل نعمة وتقرب نقمة وتقتل نفس وتقطع ود وتهجر دين إن كانت نطقت في غير موضعها، وقد روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: «رُب كلمَة سلبت نِعمة، فاخزن لسانكَ كما تخزن ذَهبك ووررِقكَ»، فللكلام آفات، وللصمت حسنات، فيكتب محسناً إذا أحسن كلامه، ويكتب مسيئاً إذا أساء، ولذا روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: «لا يزالُ العَبدُ المؤمنُ يُكتب مُحسناً ما دامَ ساكِتاً، فإذا تَكلم كُتبَ مُحسناً أو مُسيئاً».
ولهذه الأمور والأسباب قدم أمير المـؤمنين هـذه الـصفة عـلى باقي الصفات، لأهميتها ولكون إهمالها وعدم التحفظ منها يوجـب الكثـير من الذنوب والآفات.
اضافةتعليق
التعليقات