حين نتأمل المشهد التاريخي للصراع بين الحق والباطل نكتشف مدى قابلية المرأة لأن تكون تارةً مناصرة، وخيرُ داعمٍ للمشروع الإلهي، المشروع الذي يهدف بالمرتبة الأولى إلى السموّ بالفطرة البشرية ورسم الطُرق المعززة لكرامة الفرد. وقد خاض المرسلين والمعصومين اختبارات عديدة وصُقل صبرهم بابتلاءات كثيرة، ومنهم نساءٌ كانوا خير مثالٍ لهذا المخطط الإلهي العظيم، نساءٌ جاهدّن النفس والخلق ليرتقوا إلى درجات الرفعة الإنسانية. ابتداءً من مريم ابنة عمران الصائنة للنفس والجسد والتي كابدت أشدّ الاتهامات بحقها وحق وليدها النبيّ، إلى خديجة أحد أهم من دعم رسالة الإسلام ونبيّه الأكرم، إلى فاطمة، المرأة التي جمعت كل النساء في كيانٍ واحد فكانت سيدة العالمين، إلى زينب، نداء الحق والصرخة الحسينية الخالدة، وانتهاءً بكل أخت وأم وابنة وزوجة وأخت قاومت مغريات الباطل وتوازنت على صراط الحق دون أن تحيد عنه.
وعلى الجانب المعاكس نجدُ نساءً ترجّلوا من قافلة النور وكنْ عامل إجهاض لذلك المشروع السماوي المقدّس، ورأس حربة في مشروع الطُغيان والضلال، من زوجة النبي نوح وزوجة نبي الله لوط، وحتى هند آكلة الأكباد، وغيرهنّ الكثير ممن عاثوا في الأرض فساداً وصِرنْ مضرب المثل في السوء ورداءة العاقبة.
وكلما اشتد انعكاس قباحة الباطل وجمال الحق في النماذج الممثلة لهما، كلما بان التكليف، وتمت الحجة. ولنا في البتول مضرب مثلٍ يُلخصُ مقدرةَ امرأةٍ بلغت من العَظمةٍ مبالغ لم يُتاح لأحدٍ من البشر الوصول إليها، وقطعت في مختلف ميادين الحياة ومعتركاتها أشواطاً سبرت بها أغواراً لا قِبل لأحدٍ من السابقين أو اللاحقين بها.
"فاطمة بنت محمد"، نِتاج أطهر زوجين عرفهما تاريخ البشرية جمعاء، بنتُ أول مؤمنٍ برسالة الله، وأول مستقبلٍ للوحي السماويّ، وأول امرأةٍ آمنت بنور الإسلام وخدمته بروحها ومالها ولم تتوانى ببذل كل ما لديها لأجل رفعةَ شأنه. الزوجة الثابتة اليقين المؤمنة برسالة محمد (صلّى الله عليه وآله)، قولاً واحداً منح قلب الحبيب الثقة الأولى والسند الأول: "والله انك لنبي هذه الأمة".
البنت التي كانت أمًّا بكامل عطاء الأمومة لأكمل المخلوقات وأثقلهم مسؤوليةً، لُقبت بلقبٍ لم تناله أنثى قبلها ولا بعدها، التي كُنيّت بــــــ "أمُ أبيها"، أيُ عظمةً تلك التي تخوّل فتاةً غضّة العود أن تكون أماً لأعظم أنبياء العالم!. وهي الزوجة التي كانت نعم المُعين لعليّ على طاعة الله، التي ساندت وآزرت وشجّعت ورافقته في رحلته الجهادية، تلك التي قال عنها عليّ بعد رحيلها: "إنّي فقدت رسول الله بفقد فاطمة، إنها كانت لي عزاءً وسلوة، وكانت إذا نطقت ملأت سمعي بصوت الرسول، وإذا مشت لم تخرم مشيته، وأني ما أحسست تألم الفراق إلا بفراقها.
الأم التي أدارت منزلًا تربّى تحت سقفه الحسن والحسين وزينب، وكانت لأطفالها أماً ومرشدة ومربية ومُعلمة، العارفة الزاهدة التي تورّمت قدماها من الصلاة في جوف الليل والتي لم تشغلها متاعب الدنيا عن حق الآخرة، المُصلحة التي ثقّفت نساء المسلمين بسلوكها ومجالس درسها، القدوة التي أدمى الطحن يداها وهي ابنة الرسول وزوجة الخليفة، وأقرب الناس لخاتم النبيين، قال (صلّى الله عليه واله): "أَحَبُّ أَهْلِي إِليَّ فاطِمَة".
السياسية التي وضعت النقاط على الحروف في خطبها، وثبتت حق الولي في الخلافة حتى في طريقة دفنها. جاء في بعضٍ من وصية فاطمة الزهراء (عليها السلام) إلى أمير المؤمنين (عليه السلام): "وأُوصيك إذا قضيت نحبي؛ فغسّلني ولا تكشف عني، فإني طاهرة مطهّرة، وحنطني بفاضل حنوط أبي رسول الله، وصلِّ عليَّ وادفني ليلاً لا نهاراً، إذا هدأت العيون ونامت الأبصار، وسرّاً لا جهاراً، وعفِ موضع قبري، ولا تُشهد جنازتي أحداً ممّن ظلمني".
إن من يقرأ سيرة حياة البتول ويُمعن في الأحاديث المروية عنها بلسان النبي الأكرم، يعلم أنّ مكانة الزهراء (عليها السّلام) لا تدركها العقول ولا تفهمها الأذهان المقتصرة على الفهم السطحيّ لظاهر الكلام، فما معنى قول الرسول (صلّى الله عليه وآله): "إنّ الله يغضب لغضبها ويرضى لرضاها؟ حيث إنه من المستحيل أن يغضب الله لغضب فاطمة وهي غير معصومة من الخطأ؛ يعني أنّ الزهراء (عليها السلام) لن تغضب إلاّ لشيء يَغضب الله تعالى بسببه، ومن كان غضبه يعني غضب الله فهو لن يفعل إلاّ الحق ولن يُقدِم إلا على الصلاح، ولن يُخطئ أو يميل إلى الباطل طرفة عين.
وإنّ الرسول (صلّى الله عليه وآله) عندما يتحدث عن شخص أو يدلي بأي حديث فمن منطلق مسؤوليته تجاه الرسالة والأمة وبالتالي يستبعد أي مجاملات أو تقريظ بغير وجه حق. والمتفق عليه أن قول الرسول (صلّى الله عليه وآله) وفعله وتقريره حُجة بيّنة، وهو شرع نتعبد به قربة إلى الله تعالى.
إنّ السيدة فاطمة الزهراء (عليها السّلام) كانت معصومة بدلالة آية التطهير" إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا". وكفى بها على عصمتها مستنداً ودليلاً، والمقصود منها هم الخمسة الوضيئة من أهل العباءة، المجتمعون تحت الكساء.
إن السيّدة السماوية التي قضت على هذه الأرض شطراً من الزمن ثم رحلت عنها ملتحقةً برُكب أبيها النبيّ الخاتم، لم يكن خلقها وولادتها وعصمتها أمراً منحصراً بذاك الزمن، بل هي أنثى كوّنت مدارساً ومناهلاً يرِدها الخَلق على مدار حياتهم الأرضية، فيتعلمون منها ما يسدون به رمقهم للمعرفة والحكمة، إنها سيّدة النساء في كل العصور مهما بلغت الحياة مبالغاً من التطوّر، ستظلُ الزهراء عصيّةً على النسيان، وحاضرةً في كل تفاصيل حياة العصر الآنيّ، فسلام عليها يوم ولدتْ ويوم استُشهدتْ ويوم تُبعث راضيةً مرضية.
1_ الأنوار العلوية، الشيخ جعفر النقدي، ص 306
2_ الجامع الصغير 1، 37، ح203
3_ سورة الأحزاب، الآية 33
اضافةتعليق
التعليقات