لاريب أن دخول المدرسة لأوّل مرة أمر شاقّ بالنسبة لابن في سن السادسة ولكن ذلك الولد دق باب المديرة بكل ثقة بالنفس واقترب من مكتبها، وقدم لها وردة حمراء وقال لها هذه من أجلك، قفزت المديرة من كرسي إدارة المدرسة لتحتضن الصغير. وكان دخول هذه المدرسة أمر شاق ولابد من عمل صالح أو شفاعة أو واساطة. قالت له مبتسمة أعلم أن والدك شار عليك تقديم تلك الوردة وعلمك تلك الكلمات الجميلة، ولكن أسلوب نطقك إياها دخلا قلبي مباشرة. أهلا بك في مدرستنا، ولكن يجب أن تحترس فانا شديدة المحاسبة محبة لتطبيق النظام. سألت المديرة الطفل: "هل تستطيع أن تربط حذائك؟".
ضحك الصغير، قال :"لست ممن يحب الأحذية ذات الأربطة، لالشيء إلا لأنني أجلس أمام التلفزيون في المساء وأرتبّ كل أمور الصباح قبل أن أنام. أضع الحذاء والجوارب والملابس المدرسية بحانب السرير، وأقوم متأخراً في الصباح، ولذلك أحبّ الحذاء الذي لا يأخذ وقتاً في ارتدائه"..
ضحكت المديرة التي لم تضحك أبداً وقالت: "أحب فيك صراحتك هذه"، وعرفت أن أمامها طفل غير عادي تربى على الثقة في النفس. ولكنه صعب المزاج. لحظات ودخل طالب من المرحلة الثانوية، فالمدرسة كانت تضم جميع المراحل الدراسية، كان له شعر أطول من اللازم وأمسكت بمِقص وقصت له أكبر كمية ممكنة من شعره وذلك حتى يتجه فور خروجه من المدرسة إلى الحلاّق ليقصّ له شعره. سألها الطفل الصغير: "لماذا تفعلين معه ذلك".
قالت: إنه لم يسمع كلامي. لقد طلبت منه أن يقصّ شعره خمس مرات من قبل ولكنه لم يفعل".
قال ممتعضاً: أليس إنساناً حّراً يربي شعره كما يريد؟"
ردت المديرة: "إنه ليس حراً بل يجب أن يلتزم بقوانين المدرسة".
قال: صدقيني إني أخاف أن التحق بمدرسة تحت قيادتك"..
المديرة: "أنت حرّ في أن تخاف ولكنك لست حرّاً في أن تتصرف كما تريد في المجتمع"، وعلى أي حال، أنا لن أقبلك في المدرسة الإبتدائية مالم تقم بشراء حذاء له رباط وأن تتعلم ربط رباط الحذاء بنفسك".
تعلم بعد ذلك الطفل على ربط حذائه بمفرده، وارتداء ربطة العنق التي اشتكى لأمه منها لفترة قصيرة ثم اعتاد على الإهتمام بهندامه، وأصبح نظامياً بعد أن تأثر بنظام المدرسة وزملائه.
بعد النصف الأول من العام الدراسي انتقل لمدرسة أخرى أقرب لمنزله. صادف الابن متاعباً لاحدود لها من قِبل مدرسات عاجزات عن التدريس، وقابل زملاء أكثر تمرداً منه. ولكن كلما تذكر نظام مدرستة الأولى كان يندم ندماً كبيراً على نقله إلى مدرسة أخرى. وبصورة عفوية كان قد اعتاد على نظام تلك المدرسة وكان يطبقه دون أن يشعر. ويحث زملائه على ترتيب الصف.
كان يعود للمنزل ليجد كل فرد من أفراد الأسرة في عمل عليه أن يقوم به، وهناك نصف ساعة يومياً يشارك فيها والديه في إتمام بعض الأعمال المنزلية. يجمع هو مثلاً الأطباق والأكواب، والأم تقف في المطبخ والأب يرتب ويحضر بعض الحاجيات من السوق، أخته الصغرى تعد المائدة. تعلمت الأم نظام المسؤوليات التي شرحتها لها المديرة النظامية ونهت أن تعامل طفلها على أنه غير مسؤول وغير قادر على العمل، ولم تكن مهتمة لفكرة أن ابنها قد يحرق اصبعه من المكواة الكهربائية أو تشويه القميص الذي يكوية..
يجب أن يتعلم أكثر واكثر وأن يجرب كل الأعمال. إن لم يتحمل الابن جزءاً من الأعمال فماذا يعمل في الوقت الذي تكون فيه الأم مشغولة عنه وكذلك الأب؟ لابد ان يتجه إلى العبث واللهو وتدمير أي شيء فلذلك يجب أن يشارك في عمل الأسرة ليكون إنساناً جديراً بالإحساس والمسؤولية ومن هنا تزداد ثقته بنفسه، بأن له قيمة داخل هذه الأسرة، وعليه مهام يجب أن يخصص لها وقتاً ونظام محدداً لإتمامه، ويبتعد عن الإتكالية.
هكذا يأخذ الدكتور سبوك ومن خلال كتابه "تربية الأبناء في الزمن الصعب"، بيد الآباء والأمهات على دروب التربية السليمة في هذا العصر التي تختلط فيه المفاهيم، وتتغير المعايير، لتصبح علمية التربية من أشقّ الأعباء الملقاة على الآباء والأمهات. لقد توصل الدكتور سبوك ومن خلال خبرته في المجال التربوي إلى منهجية تربوية تتسم بالنظرة الموضوعية وبالحفاظ على التقاليد والأسس الدينية، وهذه المنهجية هي غريبة على أساليب التربية الغربية.
إذن ما هو الأسلوب الأسلم في تربية الأبناء؟ يقول الدكتور سبوك بأنه على الآباء أن يفرغوا آذانهم من تلال النصائح التي تلقى في آذانهم في منهجية تربية أبنائهم وليلتفت كل أب وأم إلى إحساسه الداخلي. فابنك هو إنسان، وأنت تبتغي سعادته، وسعادته لن تأتي بحصاره في نمط معين من الحياة نفرضه عليه. وإلى هذا فإن سعادة الابن لن تأتي بإطلاق العنان له ليفعل كل ما يريده ولا أن تصرخ في وجهه عند أدنى بادرة للخروج عن السلوك المطلوب. إن الأب المحب، الحازم الحاسم، المتسامح من دون تزمت هو الأب الذي يعرف أن إحساسه يتجه إلى تربية ابنه بالتفاعل لا بالقهر، وبالتفاهم لا بالقسر، وبالحنان لا باللامبالاة.
يبدو أن رأي الدكتور هو الأسلم في تربية الأبناء ويتفق معه الكثير، يجب أن يتعلم الأبناء النظام والمسؤوليات وحدود لايتجاوزها في الطلبات دون تعنيف ولا بالقسر وإنما بالإرشاد والتوجيه السليم، لأن التعنيف مقدمة الفشل. وإنما مهمتنا صناعة جيل يرتقي بنفسه ويكون عنصراً فعالاً في المجتمع.
اضافةتعليق
التعليقات