لا تزال عالقة في الأذهان نكهة العيد في أيام زمان, فمهما توالت السنين يرتشف الحاضر من تلك الذكريات ليشرق بها بعفويته وكأنها بالأمس القريب, إذ هي أيام لا تنسى لما تحمله من التراحم والتوادد يفتتحها أفراد العوائل والأصدقاء بقبلات المحبة وفض النزاعات ووضع حد للمخاصمات فيما بينهم.
قصص يرويها لنا الكبار بما خلدته ذاكرتهم, يعيدوننا بها إلى أعياد الأمس في الماضي الجميل حيث مراسيم الفرح وطقوس المحبة وهم يتقاسمون بهجة العيد في أروقة أيامه المتألقة:
ذكريات لا تنسى
أم مهدي/ موظفة 55 سنة, استهلت حديثها قائلة: إنها أجمل الأيام، أذكر كيف كانت لليالي العيد نصيب من الاستعداد والترقب, حيث تسهر أمي لتخيط لنا ملابس العيد والاستحمام, ويكون النوم متقطع واللهفة لصباح العيد لا توصف, فضلا عن طقوس الخضاب بالحناء التي نتقاسمها أنا وأخواتي لنلف أيدينا بالمناديل الملونة ونحن فرحين بها, ثم نهرول في الزقاق تتعالى ضحكات الأطفال ودهشتهم في طقوس العيد، والبالونات الملونة وهي تزدحم بأصابعنا الصغيرة التي كُنا نطاردها في السماء، فضلا عن حل الخصومات والضغائن لبعض الأقارب أو الأصدقاء, حيث تذوب كلها لمجرد رؤيتهم لبعضهم في صباح العيد لتغتسل قلوبهم عن أي غل سبق ليسكنها التراحم والمودة.
بينما الحاج أبو عباس/ 70 عاما حدثنا قائلا: أيام الأعياد تنتظرها الناس بشوق لما تحمله النفوس من الفطرة دون تراكم صراعات الحياة, فقد كان في بعض المناطق الشعبية تتكفل العوائل الميسورة الحال بالعوائل الفقيرة وتفي باحتياجاتهم لاسيما الأيتام، يشترون لعوائلهم ما يشترون لهم بالإضافة إلى العيدية, لتعم الفرحة على الجميع بدون استثناء.
تحضيرات النساء
فيما استذكرت أم هاشم ايامها قائلة: كنا ومازلنا ليومنا هذا نتحضر للعيد قبل خمسة أيام, نذهب إلى الأسواق لشراء الملابس وتحضير مواد (الكليجة) إذ نعتبرها من الطقوس التي نتفنن في تجهيزها في العيد.
وأضافت: ثم نخرج في الصباح سعداء فرحين, وأول الناس الذين نزورهم الجد والجدة, ومن ثم الوالدين, ونقضي أغلب الأوقات في مدينة الملاهي آنذاك, والآن كبرت وأصبحت جدة يجيئون أحفادي إلى معايدتي وهذا المنظر يفرحني كثيرا.
ختمت حديثها: أتمنى من الله أن يعود العراق كما كان وأفضل وتعيش الناس أخوة في وطن بلا خلافات ولا حروب.
فيما أجابتنا أم عماد/ 80 سنة عن سؤالنا لها عن قيمة (العيدية) آنذاك قائلة: كانت العيدية 10 فلوس وأحيانا تكون 50 فلسا, كنا نخرج مع شروق الشمس، ولا نعود إلا بغروبها، منطلقين بزيارات الأقارب وجمع أكبر كمية من العيدية، إذ كنا نتفاخر في ما بيننا ونتنافس على الأكثر، ثم نأخذها وننطلق إلى الساحة التي تتوسط القرية, لصعود المراجيح الخشبية التي يشيدها الشباب للعب واللهو بها.
ملابس جديدة
ومن الأشياء العالقة في ذاكرة أم مصطفى/ 48 سنة هي فرحتها بملابس العيد والتي تعتبرها الجزء الأكثر سعادة في طفولتها، حيث كانت تحضر ثياب العيد في خزانة ملابـسها منذ أسبوع.
كما تشاطرها تلك الذكريات أم اسراء إذ كانت تنتظر حلول الفجر لتنهض مع بزوغه حينما ينطلق صوت مؤذن الجامع القريب من بيتهم آنذاك وهو يردد التكبيرات الممزوجة بأصوات المصلين، حيث تقفز من نومها مسرعة لارتداء ملابسها الجديدة.
التآخي والمودة
في كل سنة يضعف معنى العيد في نفوسنا ليس لأننا كبرنا, ولكن لأننا فقدنا شموعاً كانت تضيء عيدنا, بهذه الجملة استهل الحاج أبو رضا حديثه وواصل قائلا: لقد قدمت للوطن شهيدين وعلى رغم ذلك ما زلت أنتظر فرحة العيد التي يلتحف بها قلبي لتذكرني بأيام طفولتي, لربما لأفرح نفسي وأصدر مشاعر الغبطة لأهلي, وأبنائي البقية, وأقاربي, وأصدقائي, وحتى جيراني, وهذا ما أتمنى أن يسعى له كل من فقد عزيز على قلبه فالحياة لا تتوقف على ناصية الحزن.
وأضاف: ليكن يوم العيد صفحة بيضاء وعنوان فرحة ورسمة بسمة على محيا ملايين المسلمين عبر العالم, فهو أنشودة زهو تلهج بها الشفاه، ونشوة تعمر الروح، وتغمر الفؤاد، وتبهج النفس, إذ يكتمل هلال فرحتنا بالتآخي والمودة.
مسك الختام
بين قطوف الذاكرة المسكونة بالحب لذكريات الماضي، والعطش المسافر لتلك الأيام الأقرب إلى فراديس القلب، تبقى مخيلة الطفولة في صباح العيد زاخرة بكل ما هو حقيقي ومضيء في تلك الأيام العذبة من بياض القلب في حضن العائلة والأهل والأصدقاء.
وبرغم انحسار الكثير من عادات العيد وطقوسه الشعبية، بحكم تغير الحياة وتطورها، وانشغال الكثير بهمومهم وعيشهم وهاجس الأمن، مازال العراقيون يحافظون على نكهة الماضي، والتراث الشعبي وبساطة العيش ورونق الحياة, جعل الله أيامنا أعياد ومسرات دائمة.
اضافةتعليق
التعليقات