(واذا الموؤدة سُئلت بأي ذنب قُتلت)، آية لطالما مررنا بها وقرأناها في كتاب الله، ولا زلنا نرتلها في محافلنا القرآنية، وهي تعد كاشفا لظاهرة جاهلية قديمة مورست بحق المولودة الانثى، حيث كان عصر ما قبل الاسلام يفضّل الذكور ويستاء من مجيء الاناث، فيلجأ إلى فعل شنيع خال من الانسانية والشفقة والرحمة ألا وهو (الوأد) إذ يقوم الأب بدفن الفتاة وهي حيّة، فيدسّها في التراب دون أن يرفّ له جفن.. وهي بالتالي عملية دفن في منتهى القساوة والوحشية.
واليوم اختفى الوأد ولله الحمد، وتلاشت معالمه واندرست مراسيمه بفضل مجيء الاسلام الحنيف.. لكن هناك وأد من نوع آخر، لا يقل خطورة عن وأد الجاهلية الرعناء، إنه اليُتم ياسادة.
نعم اليُتم حين يتفشّى في أي مجتمع، ويتكاثر فيه كالخلايا الانشطارية، وتتسع رقعته بفعل الحروب المتتالية والكوارث، سيتحول فيما بعد إلى غول خطير يهدّد السلم والأمان، خصوصاً إذا لم يُلتفت إلى وضع خطط كفيلة لانتشال واقع الأيتام من المطبّات التي ستعترض طريقهم، وتحول دون إندماجهم في المجتمع، وأخذ ٱستحقاقاتهم كحال بقيّة الافراد.. ولا ننسى أنّ كثرة الأيتام في أي مجتمع كالمجتمع العراقي بمثابة قنبلة موقوتة داخل النسيج المجتمعي.. من هنا لابدّ من النظر بجديّة لهذا الموضوع الخطير من قِبَل الدولة والمجتمع على حد سواء.
(الله الله في الأيتام لا تغبّوا أفواههم ولا يضيعوا بحضرتكم).. تلك وصيّة أمير المؤمنين عليه السلام، لا يزال صداها يهزّ الوجدان، ستظل وصيّة باقية ما بقي الدهر.. السؤال الآن هو: ماذا لو ضاعوا أو ضُيّع الأيتام في حضرتنا؟ من المسؤول عن ضياعهم وهم بين ظهرانينا؟ وعلى من تقع مسؤولية حفظهم وحفظ أموالهم من التلف والضياع والاستئكال؟
توجّهنا بهذا السؤال للأستاذ محمد شفيق البيطار عضو الهيئة التدريسيّة في قسم اللغة العربيّة في جامعة دمشق، فكان جوابه كالآتي:
لاينبغي أن يضيع اليتيم في مجتمع يلتزم ما أمر الله به من كفالة الأيتام، فإن ضاعوا فلأنه في إيماننا ضعفاً، ثم إنّ على وزارة الأوقاف والوزارات المسؤولة عن الأسرة والجمعيّات الخيريّة، وجمعيّات كفالة الأيتام أن تقوم بواجبها تجاههم، ولا سيّما أنّ أموال الأوقاف وأصحاب الخير والمعروف من الأغنياء، كافية لئلّا يبقى محتاج في أي مجتمع، لو أحسن القائمون عليها العمل واتقوا ربّهم.
_هل هناك خطط عملية كفيلة بالارتقاء بواقع الأيتام لتسهيل اندماجهم وسط أقرانهم؟
ومن المسؤول في تصوركم عن ضياع اليتيم وضياع حقوقه في المجتمع؟
توجهنا بهذا السؤال للاخت (أم محسن معاش)/ مديرة جمعية المودّة والازدهار النسويّة فقالت:
_غبّت الماشية في الورد بمعنى شربت يوماً، وتركت يوماً، نستطيع الإستنتاج إنّ الاهتمام لابد أن يكون متكاملاً من جميع النواحي المادية والجسمية والنفسية والمعنوية، وليس من زاوية واحدة أو زمن محدد.
1. الجميع مسؤولون عن ذلك:
-أسرة اليتيم: لأن العوز والفقر الذي تمر به الأسرة أثر فقدان الأب، أو صدمة فقدانه يسبب إلى إهمال الجوانب الأخرى وعدم أخذها بعين الإعتبار.
- المؤسسات والمنظمات: لأنها ترعى الجانب المادي البسيط على عاتقها لليتيم، وتترك أو تهمل باقي الجوانب.
- المجتمع: عدم قبوله كباقي أقرانه أو النظر اليه بنظرة استعطاف، أو حتى استصغار له مما يؤدي إلى إذلاله أو تمرّده.
- الحكومة: ليس لديها برنامج واضح لرعايتهم أو مدارس خاصة لتنشئتهم.
2. حسب متابعتي الميدانيّة للمؤسسات التي تكون فئتها المستهدفة الأيتام، هو الاقتصار على برنامج المساعدات الغذائية والكسوة، وان كانت هناك بعض الخطوات الخجولة لتبنّي الجانب التعليمي، ولكن لاترقى إلى حجم المشكلة.
بلا شك التخطيط الصحيح لحل أي مشكلة تواجه المجتمع تكلل بالنجاح، إذا نُفّذت من قبل أناس يشعرون بالمسؤولية الكبيرة إزاء هذه الفئة، ألخصها بعدة نقاط:
أ. رفع المستوى العلمي والثقافي لليتيم ولأسرة اليتيم، إذ إنّ من الخطأ الفاحش التركيز على الجانب الاقتصادي فقط، لأنّ هذا الأمر سيغير من طريقة التعامل بشكل جذري.
ب. انشاء مراكز أو مدارس خاصة هدفها بناء مهارات وشخصية اليتيم، لينمو قوياً ومعتمداً على نفسه.
ج. عدم إهمال الجانب النفسي، وذلك عبر إدخال الأسرة مع اليتيم عدة دورات وإستشاريات في هذا المجال.
د. إشاعة ثقافة التعامل الصحيح مع اليتيم، عبر وسائل الاعلام ومواقع التواصل وطباعة الكتب وصناعة للافلام القصيرة ووو..
ويكون بدل من المساعدات الدورية إنشاء مشاريع صغيرة للاكتفاء المادي، وهذا الأمر يلعب دورًا كبيرًا في بناء الكرامة الإنسانية لدى اليتيم وأسرته.
وكل ذلك يكون عبر الفئات المسؤولة التي ذكرتها سابقا.
كذلك توجّهنا بالسؤال نفسه للأديب الأستاذ عبدالله الجيزاني فأجاب:
_التفسير الموروث للقرآن الكريم والذي يفتح باب تعدّد الزيجات على مصراعيه، في حين إنه مربوط بأمهات الأيتام.
فالتفسير وتحديدا آية تعدد الزوجات، فتح بابه على مصراعيه بأقتطاع النص من سياقه، في حين أنّ السياق يربط موضوع التعدّد بالزواج من أمّهات الأيتام، الأمر الذي يؤدي إلى توفير الرعاية لهم، مع التأكيد على القسط بينهم وبين أولاد الزوجة الأولى.. وهذه إحدى الحلول لمشكلة تفاقم اليتم.
والدولة بدورها وبما تمتلك من إمكانيات هائلة معنيّة بأقامة مؤسسات رعاية خاصة بالأيتام، لكننا للأسف نجد أكثر الحلول هي حلول ترقيعية لأنها تفتقد إلى العمل المؤسساتي.
وإذا لم تحرّك الدولة ساكنا، ولم تقم بواجباتها بالشكل الصحيح، فذلك لا يُعفي دور المجتمع
(كمؤسسات مجتمع مدني أو كأفراد) لوضع الحلول المناسبة، ولكنها تبقى كمن يحرّك سيّارة بالدفع وليس بالوقود.. وقد تعجز في الاستمرار في نهاية المطاف.
أما الأستاذ حيدر السلامي/ اعلامي، له رأي آخر في هذه القضية، محذّرا من تحوّل الأيتام _فيما لو تّركوا _ إلى عناصر مُقلقة (فاسدة ومفسدة) في المجتمع.. فيقول:
"المجتمع برمّته مسؤول عن حفظ اليتيم من الضياع، وذلك بأن يوفِّر له الأجواء الطبيعية للحياة بشكل وبآخر، فيُحسن معاملته ولا يُميّزه عن أقرانه، فيولّد لديه عقدة الشعور بالنقص.
والبداية من الأسرة الحاضنة الأولى، والمجتمع الأصغر والأقرب إلى اليتيم، والأكثر إحتكاكاً به وشعوراً بالمسؤوليّة تجاهه، ثم المدرسة والشارع وبقيّة المحيط الاجتماعي.
ثم يأتي دور الحكومة في تقديم الرعاية الكاملة لمواطنيها عموما، وللشرائح الضعيفة خصوصاً ومنها الأيتام، فاقدي الرعاية والحماية والإعالة بفقدهم أحد الأبوين أو كليهما. فالحكومة تنهض بدور ولي الأمر، والمُعيل المتكفّل بشؤون الرعيّة، والضعاف منهم بنحو أولى وأخص. فتخصّص لهم الأموال، وتجنّد العقول وتنظّم الجهود والبرامج النوعيّة، التي تصبّ في خدمتهم على الصعيد المادي والمعنوي، بما يضمن لهم العيش الكريم، ويمنع من تحولهم الى طبقة من العاطلين والمتسوِّلين والمتشرّدين والسُّراق والإرهابيّين تهدِّد أمن المجتمع واستقراره".
إذن الخلاصة لابد من تظافر الجهود كل الجهود (الدولة مع المجتمع) للنهوض بمسؤوليتهما اتجاه الأيتام، لأنّ فقدان التكافل الاجتماعي، والتراحم الإنساني يؤدي إلى إضعاف المجتمع وتفكّكه وانهياره من الداخل، وهذا ما لا يرتضيه عاقل وغيور على مصلحة أمّته وسلامة مجتمعه.
وها نحن نعيش ذكرى ٱستشهاد أمير المؤمنين في هذه الايام.. ولم يُخطىء من سمّاه بأبي الأيتام لأنه كان سلام الله عليه يتعهد شخصيّاً الأيتام والأرامل، ويقوم بخدمتهم..
فقد روي: أنّه (عليه السلام) كان يدعو اليتامى فيطعمهم العسل، حتى قال بعض أصحابه: لوددتُ أني كنت يتيماً، وكان ذلك منه اقتداءً برسول الله، حيث كان الرسول (صلّى الله عليه وآله) لا تخلو داره على صغرها من يتيم، وكان يقول: (خير بيوتكم بيت فيه يتيم) ويقول: (أناوكافل اليتيم كهاتين في الجنّة) - ويشير إلى السبّابة والوسطى من أصابعه.
فهل سنشهد في المستقبل القريب نهضة علوية لوأد ظاهرة اليُتم، وإنصاف اليتامى والحيلولة دون تفاقم أوضاعهم في مجتمعنا الاسلامي؟ هذا ما نأمله ونتطلع إليه بكل تأكيد.
اضافةتعليق
التعليقات