تؤثر التربیة الجمالیة إیجابا في بناء ذائقة الأفراد، فإنھا تساھم في إبراز خصوصیة الفرد في الرؤیة والتفكیر والاكتشاف، والتعبیر عن الانفعال والحركة واللون والخط والقیم الھندسیة المعماریة، إذ إنه یمثل إنعتاقا من القبح واللؤم، والضغائن القابعة في غیاھب بعض النفوس، التي لم تتطھر بعد من أدرانھا.
وفوق كل ذلك، فإن النشاط الجمالي إنما ھو طریق إلى الحریة، فیه تكشف الروح بوسائل الحس عن حقیقتھا، ھذا الكشف الماثل في علم الجمال ھو فلسفة الفن، وما الفنان إلا فیلسوف جمالي یصوغ الواقع لیطابق المثل الأعلى.
كما أن الحیاة من دون لمسات الجمال والفن، تبدو عقیمة، كما الأرض الیباب، إذا ما افتقدت إلى تلك الحاجة الملحة، التي لأجل اشباعھا ینفق بعض الأفراد المیسورین أمولاً طائلة لتزیین واجھات بیوتھم وتنسیق حدائقھم، وإن إشاعة الجمال فضیلة، مثلھا كمثل الكلمة الطیبة ما دام ھذا الفعل الإنساني النبیل یصب في صالح الجمیع.
الجمال والمؤسسة التعليمية
يقول الدكتور عبد الأمير الأعسم أستاذ في جامعة القادسية إن "الطفل إذا ما تربى تربیة جمالیة یكون الفن أساساً لھا، فأنه یستطیع أن یصبح مكتمل الشخصیة، فالناس جمیعاً فنانون بدرجات، ولكن الخطر كل الخطر أن یعتمد المربون في تربیتھم على الأسلوب المنطقي مھملین ما فطر علیه الإنسان من حب للجمال.
ولذلك، فإن التربیة الجمالیة تبدأ من ریاض الأطفال ومن المناھج التعلیمیة المتبعة، وقبل ذلك للأسرة الدور الحاسم في تربیة الأفراد جمالیا، إذ تجعلھم منذ الصغر یتذوقون الجمال، وینبذون القبح عبر الممارسات الیومیة، على صعید السلوك، إذ یلعب في تنشئة الأفراد جمالیاً الاكتساب والمران دورا، ضمن بیئة جمیلة".
إلا أن الروتين في العملية التربوية وغياب والتركيز على المادة العملية دون الالتفات إلى إعداد الطفل سلوكيا وفكريا وأخلاقيا ليكون فرد نافع بالمجتمع، جعل من انتشار الحالات السلبية ظواهر تفتك بالذوق العام، إذ يضيف الأعسم إن "مما یمكن تدوینه بشكل سلبي على المؤسسات الرسمیة ذات العلاقة بتقدیم الخدمات الاجتماعیة والصحیة والترفیھیة، أنھا قد أغلقت الجانب الجمالي، منذ عقود خلت.
إذ لم تعن بتجمیل الشوارع، وتقدیم الخطط الإستراتیجیة الكفیلة بإظھار المدن بالشكل الذي یلیق بأذواق الناس وتطلعاتھم، فما زالت الأزبال ظاھرة للعیان في الشوارع والساحات، بما في ذلك المتنزھات التي یفترض أن تكون قمة في الجمال والجاذبية".
ويأتي دور المعلم هنا في أن يجعلوا قسطاً زمنیاً من الحصة التعليمية لا یتعدى الدقائق المعدودة لتوجیه الطلبة بضرورة أن یزرعوا شجرة ولا یقطعوھا، سواء في المدرسة، أم في البیت، أم في الشارع، أویساھموا في إشاعة النظافة والجمال في من اختیار ملابس والحفاظ علیھا وأھمیة أن تكون متناسقة مع ضرورة القیام بسفرات سیاحیة، للمناطق الجمیلة وعرض بعض الأفلام التي تشیع ثقافة الجمال، لكي نوقظ كوامن نفوسھم ونرتقي بأحاسیسھم عبر التوجیه والمشاھدة.
المؤسسات الخدمية وصناعة الجمال
ويبين الأعسم أن "وعي المسؤول الإداري بقیمة الجمال ودوره في إظھار المدن بشكل لائق بدأ من الاهتمام بتشجیر جمیع الشوارع والساحات في المركز والأطراف وصبغ المباني، والأهم من ذلك وضع إستراتیجیة لتنظیف المدن مثلما ھي العواصم الأخرى، حتى تسر الناظرین.
فحين تكون المدن جمیلة بشوارعھا، ومدارسھا، وحدائقھا، ومتنزھاتھا، فإن ذلك ینعكس بشكل مباشر على سلوك الأفراد فتتعزز الممارسات المتحضرة، التي تنم عن ذوق سلیم، مثلما حدث ویحدث في سائر الأمم المتقدمة، إذ أن القوانین والمؤسسات الخدمیة خاصة تحث الأفراد على أن یحبوا مدنھم فیجملوھا فتبدو بھیة، بسلوكھم القويم، فلا وردة تقطع، ولا نفایة ترمى، إلا في الأماكن المخصصة لذلك، فالكل راع والكل مسؤول عن رعیته".
ويؤكد أنها "عملية استثنائیة وتدریجیة وتستغرق زمنا طویلا، ولم تتحقق بسھولة، إذا لم تتظافر الجهود حتى یعم الإحساس الجمالي والأخلاقي، وتأخذ المؤسسات الخدمیة دورھا الفاعل بالتوجیه تارة، وبفرض القانون والضرائب تارة أخرى، حتى تغدو البلاد محط أنظار الجمیع.
على العكس مما نحن فیه، إذ تتحمل كل من الأسرة والمدرسة والدولة مسألة بناء الذوق، بعد ھدم كل أشكال التلوث البصري، الذي یمثل العلامة الفارقة في مدارسنا وشوارعنا وفضاءات مدننا، إذ أن مدننا لا یوجد فیھا ما یسر الناظر، لسیادة الفوضى، وانعدام الذوق، من جراء الإھمال الخدماتي وسوء التخطیط ، وغیاب الضرائب والعقوبات، وھذه جمیعھا تسھم في جعل مدننا مكباً للأزبال، ولیست آیة للجمال".
الفن والفنانين
إن غیاب دور الفن والفنانین في صياغة وترك بصمات الجمال في زوايا المحافظة، أدى إلى غياب اللمسات الجمالية من واقعنا، إذ للفن دور في التعلیم والإرشاد والنصح والوعظ، هذا ما أوضحه الأعسم وأكمل قائلا: "الفن هو الوسیلة لتربیة الذوق السلیم وإشاعة البھجة في النفوس، باعتباره من ضروب التعبیر الوجداني والذھني لتدعیم وتنظیم العلاقة بین الناس جمیعاً الروحي، بما یكفل الكمال والانسجام والتعاون من أجل خیر الإنسانیة جمعاء.
فإذا ما أعددنا الأفراد اعدادً تعلیمیاً قویما، وأخلاقیا رفیعاً، نزرع في نفوسھم قیَّم التسامح ً تربویا والمحبة، ونبذ العنف، وحب الجمال، ستكون هناك إشاعة للسلوكیات المتحضرة ذات النفع العام، التي تحترم الآخر، والقوانین، والذوق الرفیع".
ويبين الأعسم أن "الجمال قرین النظافة والذوق والتناسق والھدوء والتأمل، وسماع الموسیقى، وإن إشاعة تلك المفاھیم تسھم في إعلاء شأن الذوق الجمالي وردم التلوث البصري الذي یحیط بحیاتنا من كل صوب.
إذ ینبغي إشاعة ثقافة الجمال في مواجھة ثقافة القبح السائدة على صعید السلوكیات، الشوارع، المؤسسات، القوانین، نمط التفكیر، وكما أن الله یجمل النھار بضوء الشمس، والليل بضياء القمر والنجوم، فلماذا لا نضيء أيامنا ولیالینا، بنور أفكارنا، وجمال سلوكنا، وجلال تطلعاتنا".
الجمال والقانون
إن العشوائية السلوكية التي انتشرت في المجتمع، أنتجت ظواهر سلبية كثيرة، غاب عنها تفعيل القانون لردعها ،واحدة منها هي عدم الاهتمام بالممتلكات العامة من قبل المواطن والمسؤول.
وعليه يؤكد الدكتور الأعسم على "ضرورة تفعیل القوانین المتعلقة بجمالیة البیئة والذوق العام من الضرائب المترتبة على التخريب، والزام الجهات المعنية بأداء واجبها في هذا الجانب، من تشجیر شوارع المحافظة بأقضیتھا ونواحیھا ومداخلھا.
إزالة العشوائیات وكل مظاھر القبح التي تتقاطع والتربیة الجمالیة، فرض الغرامات المالیة على المتجاوزین على المرافق العامة كالمتنزھات والحدائق".
ويشدد الأعسم على "أهمية تكریم الأفراد الذین یجملون دورھم وشوارعھم ویشجرون واجھات بیوتھم، بهدايا معنوية مرتبطة بالجمال من أشجار زينة وأزهار وغيرها، كري الأنھار الرئیسة والفرعیة وتسویة ضفافھا بالحجر الأبیض، وادامتها دوريا تفاديا لتجمع النفايات والطحالب التي تشوه منظرها مهمة ادارية يجب على الجهات المسؤولة تأديتها".
فتربية الأبناء على استشعار الجمال بشتى تجلياته هو تربية على الإيمان برب هذه النعم وخالقها ومنشئها، كما أن التنشئة الجمالية تناهض غيرها من أنواع التربية، عقلية كانت، أو خلقية، أو بدنية، لما لها من أثر جميل في الحياة، يسكن أرواحنا الملل إذا خلت من الفنون الجميلة كالرسم، والتصوير، والموسيقا، والشعر، والآداب، فهي التي تهذب الحياة وترقيها، وهي وسيلة من وسائل التعبير عن النفس وما فيها من انفعالات، بل هي مرآة ينعكس عليها كل ما في النفس من رغبات كامنة، ولا يكفي أن يكون الإنسان قادرا على كسب لقمة العيش بل ينبغي أن يتمتع بجمال صنع الخالق في هذه الحياة.
اضافةتعليق
التعليقات