بداية غير رتيبة وغير مدروسة وبعيدة عن الطقم الرسمي أو الكلمات الروتينية التي عادة ماتبدأ بالسؤال عن الحال، ذلك السؤال الذي غالبا ماتكون الاجابة عنه كذبة كبيرة مرتدية ثوب الكبرياء، تختلف الأمثلة كلما اختلف المتلقي وتتعرى الحروف أمام درجات من الادراك البشري وتتشظى حياتنا دون وعي منا وربما تنقسم على هواها إلى ثلاثة أرجل لطاولة واحدة وتنقسم كل قدم إلى ثلاثة أقدام ونحن نضيع في محياها بين الادراك أو اللاادراك ذلك الشبح العنيد الذي يستلقي على صدورنا ويفرغها من الهواء ويحاول أن يملأها بسم الشك أو الحيرة من فائدة الوجود.
الدين والسياسة والنفط
أول ثلاثة اقدام ترتكز عليها طاولة عراقنا الحبيب متشابهات إلى حد بعيد ولكن الفرق فيما بينهم أن النفط ينشأ أسودا حتى يصلنا بذلك اللون الابيض الممتلئ بالفائدة أما الآخران ولدا بياضا حتى يصلان إلى نقطة فينا فيتحول لونهما إلى الأسود والحقيقة غير ذلك تماما لولا أننا ماشوهناها ونجعل مرتكزها الأساسي هو القسوة بكل أنواعها وكأننا فطرنا على القسوة أو كانت هي أول طعام كان مذاقه مميزا لدينا حتى أوشكنا أن نطعمه لكل المواقف لتتسم بذلك التميز المظلم الذي لا أعرف أساسه، فلما نحن نربط القسوة بكل شيء حتى الحب والتعليم والتربية فتكونت لدينا نظرة عارية عن الصحة.
كلما كانت التربية أكثر قسوة كلما كان جيلا مستقيما وكلما كان الأساتذة صارمون كلما حفظ الدرس بل تعدينا هذه المفاهيم لنصل لفكرة كلما كانت العبادة منهكة كلما تقبلت بسرعة، من أتى بهذه الفكرة حتى اعتنقها الجميع واتخذوها حقنا تحت الجلد زادت من اسمرار أفكارنا واقترب فيها القلب إلى السواد، من ربط القسوة بكل شيء لدرجة أننا إن زللنا قليلا أخبرونا أننا في نار جهنم، من أعطى الصلاحية للبشر بتقرير المصير ومن الأساس من قال أن الله ينتظر أخطائنا ليعاقبنا بدل أن يحصي ذرات أعمالنا ليغفر لنا ما سبق وما تقدم من ذنوب صادرة عن كائن بشري غير معصوم، هكذا نحن البشر بكل بساطة دوما نلجأ للأصعب، للقسوة والعقاب بدل الطرق الأخرى حتى أصبح الجميع يتهرب من الدين بسبب بعض الأفكار التي لاتمت بصلة له.
الشهر الماضي زار جامعتنا أحد شيوخ الدين الذين يبدو على محياهم الجمال الروحي لكن حينما أمرنا بالذهاب إلى قاعة الاجتماع وعلمنا أنه اجتماع ديني أغلب الطلبة قد ظهر على وجوههم السؤم والنعاس والملل الشديد حتى قبل أن يبدأ ربما لأنهم خشوا أن يخبرهم عن كل ماهو ممنوع، أن يبدأ بالأخطاء أو يذكرهم بحرمات لربما اقترفوها، ببساطة هكذا نحن البشر لانحب من يبدأ بالنصيحة قبل الاحتواء وهكذا كانت النظرة العامة لبعض الشيوخ لكنه على العكس بدأ باحتوائنا حتى القاعة التي كان أقل صوت يسمع فيها بدأت تضج بالنقاش والروح الحماسية وانطلقت الأقلام تكتب الأسئلة بكل عفوية لتذهب نحوه للإجابة، أجاب عن كل شيء بابتسامة ولم أرَ حاجباه يحتضنان بعضهما عجبا هل روحه بهذا البياض والبساطة فعلا كيف له بدقائق أن يحتضن هذا العدد الكبير وتمر الساعة دون أن نشعر بها.
حتى قُرأ ذلك السؤال الذي كان يخشاه الجميع (الحب) ابتسم وأخذ نفسا عميقا ثم أجاب بكل ثقة: (وهل الدين إلا الحب)، صمت الجميع ثم انطلقت بعض التنهيدات الممتلئة بالسعادة، كيف حدث هذا كيف لجملة بسيطة أن تغير فكرة كاملة، أن تنقل مجموعة كبيرة من الأرض إلى السماء ثم أكمل الشروط والتبعات والخطوات التي يجب أن نسلكها ليكون حبا لا عصيانا كأنه خدرنا بتلك الجملة ودخل لنا من باب آخر فتقبلنا كلامه بكل حب رغم أنه تشابه مع رأي الكثيرين إلا أن الأسلوب جعلنا نغادر روحيا معه ونتقبل جمال كلامه بكل سلاسة، هذا الفرق بين القسوة والحب، الأول يولد الكره والآخر يولد السعادة والاطمئنان حتى وإن لم تكن على صواب.
ثم تتحرك الطاولة ليظهر الجانب الآخر منها، سفر وموت وخيانة، ثلاثة أرجل أخرى تقتص منا طعم السعادة، تتشابه في الألم ولكن تختلف في درجاته فيضم السفر ألم أخف نتعايش معه طيلة الوقت ونحن كلنا أمل بعودة هذا الغائب والجراح المسماة بالفقدان تلتئم مع الوقت فنصبح معتادين على الأصوات والصور فقط وربما يحدث العناق من حين إلى حين لكن جزء منكم فقد نفسه عند آخر خطوة نحو المطار أو البحر الذي لايشبع من العرب حتى كدنا نشعر به، إنه بات يتكلم بلهجتنا وتنطلق الأصوات منه ليلا، أصوات الأحبة الذين توقفوا عنده أو ناموا فيه دون عودة ومنه تمتثل كلمة الموت فيزداد الألم أضعافا ويفقد الأمل معناه فلا عودة لغائب احتضنه بحر أو أغلق عليه قبر، لكن هذا مع الأيام نعتاد عليه أيضا، لكن نبقى بين حين وآخر نتفقده ونفتح ذلك الجزء من القلب لتروي ظمأه دموعنا ثم نعود كما كنا.
لكن الأسوء والأكثر إيذاءً هي الخيانة سواء كانت حبيبا أو وطنا أو خيانة النفس، تلك أسوء الأنواع وأشدها ألما حيث بعدها لن نكون كما كنا أو ما كنا عليه، يتغير فينا كل شيء ونبدو أشخاص جدد لايهزهم كل شيء ولاترف أجفانهم على أشياء كانوا يعتبرونها الأهم في حياتهم حتى باتت لا شيء، ثم تغلق نافذة لتفتح أخرى تحمل بين طياتها؛ (الحنين، الوداع وبقايا الأحبة) كلمات أخرى تحمل معان مميتة وشظايا استقرت فينا وأساسها قسوة لا أساس لها ولا أعلم من أول من قررها.
وكان البشر هم الكائنات القاسية الوحيدة على هذه الأرض ولكن القسوة حتما ليست الحل والله لاينتظر أخطاءنا ليعاقبنا بل هو ألطف من هذا، هو ينظر إلى قلوبنا لعلنا فعلنا حسنا أو نظرنا حسنا ليمحو ما فات، كفى بنا هذه الظلمة الأبدية التي تربط كل شيء بقسوة وعقاب ولو فعلنا العكس لسار كل شيء بسلام وأمان، قال تعالى: (اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ).
اضافةتعليق
التعليقات