هناك صدف في الحياة لايستطيع الانسان أن يتجاوزها، لابدّ أن يقف عندها متأملاً، هي مواقف بل خرائط تدلكَ الى أماكن أكثر عمقاً داخل روحك الضائعة، لتكتشف حينها أنها لم تكن مجرد صدفة، هي إشارة من السماء وتكون بمثابة منبه يسعى الى ايقاظك هذا إن أردتَ النهوض من سباتكَ الذي طال!.
في الوقت الذي غربت شمس الأمل من داخلها وهي تبحث عن خاتمها المفقود، أشرقت شمس أخرى زاهية في جزء معتم منها وهي تدخل الى ذاك المكان..
سألها الرجل بأدب: ماذا أضعتِ سيدتي؟
وجدت نفسها محمولة على أجنحة الماضي وأخذت تفكر أنها أضاعت العديد من الاشياء في حياتها..
عادت من شرودها وأجابته بأنها أضاعت منذ أيام خاتماً ثميناً _مادياً ومعنوياً_ فهو يحمل جوهرة نفيسة وهو هدية وذكرى غالية من والدتها المرحومة..
أعطته مواصفات الخاتم بدقة والزمان والمكان المحتملين..
راح الرجل يبحث بين عدة خواتم، وتركها مع مشاعر غريبة اجتاحتها منذ دخولها الى هذه الغرفة الكبيرة، أحاطت بنظرها على عدة أشياء رُتِبت بدقة وعُلِق على كل منها أرقام وتواريخ يعود بعضها الى سنوات!..
هنا ساعة نسائية ذهبية، وهناك خاتم زواج فضي، دمية جميلة، مرآة صغيرة، صورة لمجموعة أصدقاء، سبحة خضراء، حقيبة نقود، فردة حذاء رياضي، دفتر ومفاتيح.....
في ظرف دقائق عاد الخادم وابتسامة ودودة تزيّن وجهه البشوش، اتجه اليها وانحنى انحناءة خفيفة وأعطاها الخاتم المفقود الذي كان على يديه المبسوطتين، وقال لها بلطف: لاشيء يضيع ان شاء الله عند حرم الرؤوف..
من جديد أشرقت تلك الشمس الغاربة وشموس أخرى كانت محجوبة وراء السحب!.
رأت انها تحتاج الى جلسة منفردة حتى تهضم ماشاهدته وماشعرته قبل قليل، جلست قريبة من ذاك المكان، تأملت بعينين تفيضان دمعاً، الاسم المكتوب بعدة لغات: (غرفة المفقودات)، شدّ ماأثار المكان والاشياء قضايا دفينة في داخلها..
تمتمت مع نفسها وهي في نصف هذيان: يلازمني شعور دائم بأن هناك شيء ما ضائع مني، كم جميل لو يوجد مكان في هذه المعمورة يجمع ماتبحث عنه أو فقدته..
تركت بعض المقتنيات في تلك الغرفة أثراً خاصاً عليها، وراحت تستعيد تلك المقتنيات المفقودة لأصحابها المجهولين والذين قد يعودون للسؤال عنها..
البداية كانت مع الساعة، تساءلت مع نفسها عن أوقات ضائعة لم تستغلّها، عن دقائق توّهمت أنها تشغلها بعمل مفيد، انتابتها قشعريرة وهي تستعيد شكل تلك الساعة _التي كانت عقاربها متوقفة بسبب نفاذ البطارية_ ونظرت الى ساعتها بذعر لتطمئِن بأنها لاتزال تتحرك!.
طافت نصف ابتسامة على وجهها المنهك وخيال تلك الدبلة يطوف أمام ناظريها، وعن نصفها الاخر الذي طالما حلمت به والذي وجدته ومن ثم خطفه القدر..
راحت الصور تتتابع في مخيلتها الخصبة، الدمية كانت رمزاً لتلك الطفلة التي كانت في داخلها وتفتقدها كثيراَ، كانت طفلة سعيدة تحب الحياة وقد أضاعتها في منتصف العمر..
راحت تخطو داخل قوقعتها بتؤدة: المال والجمال والصداقة والصحة والايمان والعلم وأحلام ضاعت مفاتيحها ولم تجد سوى أبواب مغلقة في وجهها.. كلها أشياء فقدتها في متاهة الدنيا..
أعادها صوت رخيم الى واقعها، أعيتها تلك الافكار فراحت تستمع الى همسات السماء، حفّ اذناها صوت الاذان مرددا ب: الله أكبر..
لملمت أجزاءها المكسورة ورنت الى السماء ثم أطرقت خجلة: الله أكبر من كل ما أضعت، فتلك أشياء قابلة للتعويض وقد أتدارك البعض منها، وأنا لازلتُ أملك الايمان، تأمَلت المنارتين وأكملت: والولاية، وجودي هنا وتوفيق زيارة ابن الاطهار لايُقدّر بثمن..
وفي اثناء مناجاتها تلك جاءت اليها إمرأة وأعطتها كسرة خبز..
نظرت الى المرأة شزراً وقد اعتبرتها في البداية مهينة لشخصها، أحست المرأة بنظراتها فربتت على كتفها وهمست اليها: إنها من سفرة السلطان.. وأشارت بيدها الى القبّة الذهبية..
تضرّج وجهها وأخذتها ممتنة..
كانت السماء الملبدة بالغيوم تنذر بهطول المطر، هذا ماتحتاجه فالقلب ظامئ والروح جائعة، رنت الى القبة وخاطبت الامام: إسقِ قلبي العطِش يا أبا الجواد..
تبللت قطعة الخبز بدموعها وبقطرات المطر لمّا نزلت، تناولتها ونهضت من فورها، ودّعت بعينيها الوديعتين تلك الغرفة.. تهلل وجهها فرحا ورددت قائلة: لقد وجدتُ نفسي هنا..
لم تكن مجرد غرفة ولا كسرة خبز، كانت ضربة قلب، وخزة ضمير، صلاة أمل، كانت نظرة من إمام رؤوف..
اتجهت الى شباك الضريح، ورمت الخاتم في داخله، وخيوط النور تتسلل الى داخلها المظلم..
فلقد اتكأت على باب السلطان، شمس الشموس، أنيس النفوس، الامام علي بن موسى الرضا، ما قصده ضائع ولاخائف ولا مكسور وعاد خائبا فهو الضامن لجروح المكلومين وهو شرط الدخول الى حصن الله الذي يأمن من دخله من عذاب الدنيا والاخرة..
اضافةتعليق
التعليقات