كنت مولعة منذ أيام الطفولة بالاستماع الى الحكايا التي تقصها أختي الكبرى والتي تكبرني سنين عدة ومن ثم إلى قراءة القصص الصغيرة والمجلات وكان أحبها الى قلبي مجلة (المزمار)، ومن القصص التي ظلت عالقة في ذاكرتي قصة تلك الأم التي سعت جاهدة بأن لاتفقد وليدها الذي كان يصارع المرض والموت الذي طرق بابها بهيأة رجل كبير بالسن مصطحبا معه وليدها، فأسرعت خلفه وبدأت تسأل البحيرة والاشجار والرياح والحجارة للوصول الى وليدها مضحية بكل ما تملك من الشباب والنضارة حين طلبت منها الطبيعة جمال عينيها وسواد شعرها وشبابها غير مبالية!.
وهنا تبادر الى ذهني الصغير، كيف تضحي بأجمل ما فيها ولم تستسلم للموت حتى آخر لحظة؟.. كل هذه التساؤلات عاشت معي سنين عديدة.. الى أن كبرنا أنا وأخوتي فبدأت القصة التي قرأتها وأنا صغيرة تتحول الى واقع يمزق عائلتي وبدأ الموت بزيارتنا، وكان أول من يرتحل معه أخي الذي يصغرني بعام واحد وقد بلغ من العمر 22 عاما، شابا يافعا تضحك الدنيا بين ثناياه..
حين غادر المنزل في الساعة السابعة صباحا متوجها الى عمله راكبا دراجته النارية.. وبعد مغادرته المنزل بربع ساعة تحديدا يرن هاتف اخي الاكبر (الجوال) وبدون مقدمات، الوو مرحبا.. أخي صاحب هذا الرقم قتل توا وهو يقود دراجته! فنظرتُ إلى أمي خوفا عليها من هول الخبر، فوجدتها تسرع بإرتداء عبائتها مناديةً اخي الكبير: أسرع لنجدته قبل أن يأخذوه لمكان مجهول!.
وبدأ البكاء والصراخ يضج في شارعنا الضيق، في مدينة الكاظمية في تلك البيوت التي تستنشق منها عبق الماضي وبدأت جاراتنا يدخلن البيت مذعورات ويصحن يا ويلاه... وبدأت أبحث عن وجه امي، حين رجعتْ كانت تعابير وجهها غير مفهومة وتروي بأنه وجدته ملقى على وجهه والدماء تسيل منه حين نفذت رصاصة إلى قلبه من قناص وهو متوجة الى مكان عمله، ولا نعرف من يكون؟
هل ينتمي لزمرة إرهابية لزرع الطائفية ام هو عداء شخصي؟ وتحدثت أمي للنساء اللواتي إجتمعن حولها بكلمات الحمد لله... وجدته وذهبتُ به إلى مدينة الطب وحصلت على شهادة الوفاة، صعقت لما قالته أمي!! أين تلك الام التي ركضت جاهدة لإرجاع الحياة إلى قلب ولدها الرضيع! وبعد مرور من الزمن غير ببعيد بدأت ملامح امي تشيخ ويتغير لون شعرها وذهب بريق عينيها..
وقالت لي ذات مساء: بنيتي الموت يزورنا ويطرق أبواب محلتنا كل يوم... كل صباح وانتِ تسمعين صياح أم وطفلة وولد فقد أمه يعزّ عليّ موت ولدي لكنني أشتريت بأجمل ما أملك جثة لم تقطع وتبعثر، أصبحنا نخاف من فقد أجسادهم اكثر من فقدنا أرواحهم، لا أقل شجاعة عن تلك المرأة التي كانت في سطور تلك القصة لكنني إمرأة تلظت بأوجاع الموت الف مرة حين فقدت أخي قبل سنين ليست ببعيدة...
جاري الذي خرجتُ فوجدته جثة لا أرى لها ملامح، متفحمة، قطعتها سيارة مففخة.. وامسكتْ بيديها التي رسم عليها الدهر خطوطا رفيعة كلتا يداي وبدت قبضتها ضعيفة، خاوية، مرتجفة، محدثة ايايّ وعينيها لا يستقر نظرهما كأنها تبحث عن شيء..
الموت ضيفنا الدائم يطرق أبوابنا في اليوم عشرات المرات في بلد مزقه الإرهاب الذي يسير ويحصد أرواحا بريئة في الصباح والمساء غير مبالٍ لصرخة أم وعويل نساء ودموع اطفال يبكون لفقد أبيهم، حتى أصبحنا لا نخاف الموت أكثر من حرصنا على دفن موتانا وجمع اشلائهم ونقول الحمد لله على جثث أبنائنا التي لم تمزق اشلاءا او ترمى بعيدا في مكان مجهول، ومهما حصد الموت منا سيرحل يوما وتبدأ ارضنا تنبت من جديد..
أجبتها وعيوني غارقة بدموعي كأنها نار صبت من بركان: أمي أي شموخ أراه في عينيكِ؟!.. أطرقت رأسها وقالت: منحتني إيّاه سيدتي ومولاتي زينب في يوم الطف..
السلام عليكِ يا أم المصائب٠
اضافةتعليق
التعليقات