طبيعة الدنيا، اختلاط حقها بباطلها، وصحيحها بسقيمها... طبيعتها الامتحان الإلهي ليختبر معدن الإنسان ويصفو هذا المعدن، فطبيعتها هي الفتنة.
والفتنة - كما يقول أهل اللغة - هي العملية التي يُعرض فيها المعدن إلى النار، حتى يتخلص من الشوائب والرواسب، ويظهر جوهره الصافي، وقد استخدم الوحي هذا اللفظ للدلالة على هذا المعنى بتشبيه رائع :ففصول الحياة وأحداثها بمثابة نار يتعرّض لها الإنسان، فتذوب بها الأوساخ الملتصقة بشخصيته ويظهر جوهره.. فقد يكون الجوهر ذهباً خالصاً فيزداد بالفتنة جلاءً وقيمة، وقد يكون الجوهر طيناً! فيذوب مع الأوساخ ويحترق.
ومما يستفاد من النصوص أن الهدف من هذه الفتن هو هدف تربوي للإنسان نفسه، أي تشخيص مكامن الخلل في ذاته ليعالجها، بالضبط كما تقوم الجيوش بالمناورات ضد عدو وهمي، وذلك لاختبار جهوزيتها لتعالج الأخطاء والنواقص فلا تقع فيها فترة الحروب.
ومما لا شك فيه، أن هذا النمط من الفتنة، يصيب الناس كلهم، بلا فرق بين مؤمن أو كافر، صغير أو كبير.. لكن الجوهر واحد. نعم تختلف صوره
وهذا ما أشار إليه الإمام علي (عليه السلام) بقوله: (لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُم اللهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الفِتْنَةِ لِأَنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ إِلَّا وَهُوَ مُسْتَمِلٌ عَلَى فِتْنَةٍ وَلَكِن مَنِ اسْتَعَاذَ فَلْيَسْتَعِذْ مِن مُضِلَّاتِ الفِتَنِ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَقُولُ: «وَاعْلَمُوا أَنَّما أموالكم وأولادُكُم فِتْنَةٌ ومَعنَى ذَلِكَ أَنَّهُ يَحْتَبِرُهُم بِالأمْوَالِ والأَولَادِ لِيَتَبَيَّنَ السَّاخِطَ لِرِزْقِهِ والرَّاضِيَ بِقِسمِهِ وَإِن كَانَ سُبحَانَهُ أَعْلَمَ بِهِم مِن أَنفُسِهِم ولكن لِتَظْهَرَ الأَفْعَالُ الَّتِي بِهَا يُسْتَحَقُّ الثَّوَابُ والعِقَابُ).
ولكن الفتنة لا تنحصر في الاتجاه الفردي فحسب، فالقرآن الكريم استخدم اللفظ ذاته، ولكن في الإطار الاجتماعي/ السياسي أيضاً، أي تلك الاختبارات التي يعم الله بها مجتمعاً ليرى مقدار وعي أفراده أو إيمانهم أو صبرهم.. تلك العواصف التي تمر على المجتمع كإعصار مدمر، بل كليل داج غــاب عـنـه ضـيــاؤه.. فيأخذ الناس يميناً وشمالاً.
وبهذا المعنى استخدم القرآن اللفظ قائلاً:
"وَ الفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ القتل."
"وَ قَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ".
"كُلَّما رُدُّوا إلى الفِتْنَةِ أُركِسُوا فيها"، وغيرها آيات أخر.
وهذا النموذج من الفتنة هو ما نريد التحدث عنه، لأنه يسبب انتكاسة كبيرة في داخل المجتمع يُضّل كثيراً طريقهم، ولا يسلم منه إلا ذوو البصيرة والوعي والمعرفة.
الفتنة التي يختلط فيها الحق والباطل، فيتقمص الحق أهل الباطل، ويخطئ أهل الحق حتى يظنهم الناس أهل باطل.. تلك التي يصفها أمير المؤمنين (عليه السلام) قائلاً:
(فَلَو أَنَّ البَاطِلَ خَلَصَ مِن مِزَاجِ الحَقِّ لَم يَحْفَ عَلَى المُرتَادِينَ ولو أنَّ الحَقَّ خَلَصَ مِن لَبِسِ البَاطِلِ انقَطَعَت عَنهُ السُنُ الْمُعَانِدِينَ ولَكِن يُؤخَذُ مِن هَذَا ضِعْفٌ ومِن هَذَا ضِعْثُ فَيُمْزَجَانِ فَهُنَالِكَ يَستَولِي الشَّيْطَانُ عَلَى أَوْلِيَائِهِ وَيَنجُو الَّذِينَ سَبَقَت هُم مِنَ اللَّهِ الحسنى).
تلك التي ينقسم الناس فيها إلى طائفتين، وسواء كنت معها أو ضدها، فأنت في ورطة!.
وكل واحد منا يجد بين الفينة والأخرى، الفتنة التي يختلط فيها، ضغت من الحق بمثله من الباطل، وتلتبس كقطع من الليل المظلم.. فتوقع الخلاف بين الأخ وأخيه، والابن وأبيه، وبين الزوجين والصديقين والجارين و ....
تتجلى تارةً على شكل فتن سياسية، وأخرى فكرية وثقافية وأخرى اجتماعية.. تشغلنا فيها أي شغل، حتى إذا زالت وهدأت النفوس، وانجلت الغبرة، وتميز الحق عن الباطل، وندم الخاطئون، ولكن لات حين مندم، والأهم يُصاب المجتمع فيها بانتكاسة يخسر جهود سنين من عمره.
وقد ضرب لنا القرآن الكريم مثالاً واضحاً للفتنة التي تسبب انتكاسة واضحة في مسيرة المجتمع، وهي فتنة "السامري".
فكروا معي في حال بني إسرائيل.. الأمة المؤمنة، المضطهدة المظلومة، التي كان فرعون وجماعته يقتلون رجالهم ويستحيون نساءهم للخدمة، يتضرعون إلى الله سبحانه، فيرسل لهم «المنقذ»، موسى وهارون ابني عمران، وبعد سنين طويلة من الصراع مع فرعون وحزبه، وبعد مجموعة من المعاجز التي أظهرها الله على يد نبيه موسى أنجاهم الله، وجعلهم مستخلفين في الأرض بما ورثوا تلك الحضارة الكبيرة.
ثم كفل الله سبحانه رزقهم بالمن والسلوى.. فحان وقت الامتحان: إذ طلب الله من موسى أن يبتعد عن قومه ثلاثين يوماً ويأتي لمناجاته، فأخره عنهم عشرة أيام فقط ! فرجع إليهم يعبدون العجل !
دعونا نقرأ الآيات، ونختصر بها ما حل بهم:
(وواعدنا مُوسى ثَلاثينَ لَيْلَةً وأتممناها بِعَشْرِ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ ليلةً وقالَ مُوسى لأخيه هارُونَ اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين).
فذهب موسى إلى ميقات ربه وترك قومه، ووعدهم أن يرجع إليهم بعد ثلاثين يوماً، فما الذي حصل؟
قال له الرب سبحانه وتعالى:
(وَ ما أَعْجَلَكَ عَن قَومِكَ يا مُوسى * قَالَ هُم أُولاءِ عَلَى أَثَري وعَجِلتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرضى * قالَ فَإِنَّا قَد فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِي * فَرَجَعَ مُوسى إلى قَوْمِهِ غَضبانَ أَسِفَاً قَالَ يَا قَومِ أَلَمْ يَعِدُكُم رَبُّكُم وَعداً حَسَناً أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ العَهْدُ أَم أَرَدتُم أَن يَحِلَّ عَلَيْكُم غَضَبٌ مِن رَبِّكُم فَأَخلَفتُم مَوعِدي * قالُوا ما أَخلَفنَا مَوعِدَكَ بِمَلَكِنا ولكِنَّا حملنا أوزاراً من زِينَةِ القَومِ فَقَذَفناها فَكَذَلِكَ أَلقَى السَّامِرِي * فَأَخْرَجَ لهم عجلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقَالُوا هذا إِلهُكُم وَإِلهُ مُوسى فَنَسِي * أَفَلا يَرَونَ أَلا يَرْجِعُ إِلَيْهِم قَولاً ولا يَمْلِكُ لهُم ضَرًّا ولا نفعا * وَلَقَد قَالَ لهُم هارُونُ مِن قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُم بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أمري).
ولو دققنا لوجدنا أن فتنة السامري كانت رحمة لبني إسرائيل، فنلتمس سبب تأخير الله للنبي موسى، إذ كان ذلك سبباً في أن فضح المنافقين والانقلابيين أنفسهم، لأنهم ظنوا حين تأخر موسى عنهم بأن الفرصة قد حانت، فأظهروا معدنهم الخبيث ومشروعهم التحريفي، وكشفوا عن أقنعتهم، فلما رجع موسى صحح المسار وفضحهم، كمقدمة للتخلص منهم وصار ذلك درساً لبني إسرائيل وتحصنوا ضد فتنة مشابهة.
فكما أن الله سبحانه يفتنن الإنسان في اطاره الشخصي، لكي يتعرف على مواطن الخلل في شخصيته، ومكامن الضعف في صفاته، كذلك الفتنة الاجتماعية تستهدف أيضاً الاختبار، لكن هذه المرة على صعيد مجتمع كامل فتتمايز الصفوف، ويتمحص المؤمنون، وتظهر الحقائق الكامنة في النفوس - إيجاباً أو سلباً .
وفي الإسلام نماذج كافية عن ذلك:
السقيفة: فتنة.
عهد الخلفاء قبل علي (عليه السلام): فتنة ...
حرب الجمل: فتنة ..
حرب صفين: فتنة ...
حرب النهروان: فتنة ...
وغيرها كثير حتى أن العلامة المجلسي (رض) سمى تاريخ أمير المؤمنين السلام في كتابه بحار الأنوار بكتاب الفتن: أي الفتن التي رافقت إمامته الشريفة.
اضافةتعليق
التعليقات