في مرحلة ما من حياتنا، نتوهم أن الحرية المطلقة هي الحلّ، وأن القيود المجتمعية والعائلية تقف في وجه أحلامنا، نمرّ بحالة من التمرد على البيئة التي نشأنا فيها، محاولين كسر القيود معتقدين أنها عائق، هذه العشوائية الفكريّة تبدو طبيعية في سن المراهقة، في مرحلة البحث عن الهوية والسعي لإثبات الذات.
تسللت تلك المشاعر في مرحلة مبكرة إلى ابنتي فاطمة ذات الثلاثة عشر عامًا، التي وجدت نفسها فجأة في دور الراشد المسؤول عن متابعة أمور الأسرة وإصلاح ما تعتقد أنه أخطاء يغفل عنها الآخرون.
فهي ترى أن عليها دورًا يتجاوز عمرها؛ وعليها متابعة تفاصيل حياتنا، تراقب العمل، تخطط للمستقبل، وتنبهنا لما قد نغفل عنه، هذا الشعور بالمسؤولية يبدو وكأنه جزء من شخصيتها، لكنه يثير تساؤلات: هل نحن من زرعنا فيها هذا الإحساس؟ أم أنها ورثته مني؟ أم أن تصرفاتنا اليومية هي ما دفعتها لتحمل هذا العبء؟
إنها طفلة تصغي باهتمام لكل كلمة تُقال، تراقب تفاصيل العمل المنزلي والوضع المادي والمشاريع المستقبلية وحتى شؤون الدراسة، وكأنها نسخة مصغرة مني، تعيش ذات التجربة التي عشتها في عمرها، أتذكر حينها؛ كنت أتحمل همومًا تفوق سني، أشعر بمسؤولية كبيرة تجاه أسرتي، خاصة وأنني كنت الابنة الكبرى، كان خوفي على صفو العائلة يدفعني لمتابعة كلّ شيء، رغم أني كنت طفلة لم تكتمل ملامح نضجها بعد.
واليوم، بعد مرور 35 عامًا، أجد أن ابنتي تفكر بالطريقة ذاتها دون أن أخبرها عن تجربتي، وكأن هذا الإحساس بالمسؤولية قد انتقل إليها بطريقة غريزية، كأنه إرث خفي تشربته من مراقبتها لي.
رغم أن فاطمة نضجت قبل أوانها، إلا أن في شخصيتها بقايا طفولة تتشبث بها ومع ذلك، فإن خوفي عليها من هذا النضج المبكر كبير أخشى أن تحمل أعباءً لا تناسب عمرها، وأن يترك ذلك أثرًا في نفسيتها ومستقبلها.
النضج المبكر قد يكون سيفًا ذا حدين فمن ناحية، يمنح الطفل وعيًا مبكرًا وإحساسًا عميقًا بالمسؤولية لكنه، من ناحية أخرى، قد يسلبه جزءًا من طفولته ويجعله يعيش تحت وطأة ضغوط تفوق طاقته.
إن فاطمة اليوم تذكرني بنفسي، لكنها أيضًا تدفعني للتفكير في كيفية دعمها لتعيش طفولتها دون أن تحمل هموم الكبار فالأطفال يحتاجون للعب، للحلم، وللتعلم دون أن يثقلهم شعور بالمسؤولية لا يناسب أعمارهم، فكلّ مرحلة من حياتنا تمرّ دون أن نشعر كأنها حلم مضى بالأمس لذا علينا أن نوازن بين زرع قيم المسؤولية لدى أطفالنا، وبين الحفاظ على طفولتهم وبراءتهم، كي لا يكبروا قبل أوانهم، فالنضج وتحمل مسؤوليات الأسرة يأتي في وقته الأفضل أن يلتفت المربين إلى ضرورة التربية والتنشئة الصحية لهذا الطفل وبناءه بناء نفسي وأخلاقي ديني وتوجيهه بشكل يتناسب مع عمره.
اضافةتعليق
التعليقات