وكأن رائحة الهواء قد تغيرت. تلك النفحة التي تعبر صدورنا تحمل معها عبقاً من حزن عتيق، مشاعر غريبة تسيطر علينا، وأجواء كئيبة تلف الأفق. السماء تبدو مظلمة، كأنها تعكس سواد القلوب، والأرض تكتسي بحراً من الدماء، مجسدةً بذلك تلك المذبحة العظيمة التي وقعت قبل قرون عديدة.
تهب الرياح، حاملةً معها آهات وآلام من الماضي، تصدح في أرجاء الأرض لتذكرنا بمصاب آل بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، إنها صرخات نساء وأطفال، وآهات رجال أشداء، ارتفعت في سماء كربلاء لتظل شاهدة على أعظم مآسي التاريخ.
حيث تنادينا أصوات المنادين: "حي على العزاء"، داعية الجميع إلى التأمل والتفكر في تلك الحادثة الجلل .
في الليالي الأولى، نجتمع لنستمع إلى الخطباء وهم يسردون قصص الشجاعة والفداء. كل كلمة تخرج من أفواههم تحمل معها شحنة من الحزن، تخترق القلوب وتستقر فيها. نسمع عن الطفل الرضيع الذي قتل في حجر أبيه، وعن العباس (عليه السلام) الذي سقط بجانب الفرات وهو يبحث عن ماء ليبلل شفاه الأطفال العطاشى. نسمع عن زينب الحوراء وهي تجوب ساحة المعركة، تبحث عن أحبائها بين الجثث المتناثرة.
ومع كل قصة، تتجدد دموعنا، وكأننا نعيش المأساة من جديد. نمسك صدورنا بأيدينا، نضرب عليها بحركة عفوية، تعبيراً عن الألم الذي يعترينا. وفي تلك اللحظات، نشعر بأن الحسين وأصحابه ليسوا مجرد شخصيات تاريخية، بل هم جزء من حياتنا، جزء من كياننا. نعيش معهم مأساتهم، ونستمد من صبرهم وقوتهم عزاءً لنا في حياتنا اليومية.
فأيام محرم تحمل في طياتها الكثير من التناقضات. هي أيام حزن وبكاء، لكنها في الوقت ذاته أيام قوة وصمود. نتعلم من الحسين (عليه السلام) أن نكون أقوياء في مواجهة الظلم، أن نقف بوجه الطغيان مهما كان الثمن. نتعلم أن الشهادة في سبيل الحق هي أسمى درجات التضحية.
في كل زاوية من زوايا قلوبنا، يبقى محرم الحرام علامة مضيئة، تذكرنا بأن الحق لا يموت، وأن العدل سينتصر في نهاية المطاف. نعيش هذه الأيام بقلوب مكلومة، لكن بإيمان راسخ أن تضحيات الحسين (عليه السلام) لم تذهب سدى، وأن رسالته ستبقى حيّة في قلوبنا وعقولنا، تلهمنا وتدفعنا نحو حياة أسمى وأعدل.
اضافةتعليق
التعليقات