عقدت جمعية المودة والازدهار للتنمية النسوية ندوة، حيث ألقى سماحة الشيخ مرتضى معاش محاضرة تحت عنوان: (لماذا نبني وكيف نبني وماذا نبني؟)، ذكر فيها أسباب سقوط الأمم وانهيار الحضارات، من خلال الاستلهام من آيات الذكر الحكيم والاعتبار من عاد قوم النبي هود الذين استكبروا بالأرض ببناء الأبراج الشاهقة طغيانا وبطشا لكن ذلك تسبب لهم بالعذاب والنهاية السيئة. فما هي العبر من هذه القصة وكيف نبني حياتنا؟
وفيما يلي القسم الأول من المحاضرة:
قوم عاد والحضارة المفقودة
قال الله تعالى في كتابه الكريم:
(أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ، وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ، وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ) الشعراء 128-130.
الريع هو المكان المرتفع، الآية هي العلامة وقد تكون بمعنى المعجزة أو الشيء الكبير العظيم، والعبث هو الفعل الذي لا غاية له، مجرد لإظهار التفاخر والعلوّْ وإبراز القوة بدون أي غاية أو هدف، والمصانع بمعنى كل ما يصنعه الإنسان ويُقال بأنها الأبنية العالية والقصور، والبعض يقول إنها الآلات.
هذه الآيات القرآنية تتحدث عن النبي هود (عليه السلام) مع قوم عاد، وهم قوم كانوا بعد طوفان النبي نوح (عليه السلام) بسبعة أجيال، وبحساب سنين سبعة أجيال وأعمار تلك الأجيال الطويلة، حيث كانت الأعمار طويلة جدا، فقد ورد أن أعمار قوم هود كانت أربعمائة سنةً، ولا يبعد ذلك كما في عمر النبي نوح (عليه السلام)، (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ) العنكبوت 14، أو أنها كانت حالة استثنائية خاصة (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ، إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ، الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ) الفجر6/8.
وبعد طوفان النبي نوح انتشر التوحيد في الأرض، وكان الناس يؤمنون بالله سبحانه وتعالى، ولكن بعد مرور الأجيال والنعِم الموفورة والكثيرة، والقوة التي تحصل عند بعض الناس والأفراد، ظهر الكفر والانحراف عند الناس، فكان قوم عاد من القصص ومن العِبَر التي كفرت بنعمة الله سبحانه وتعالى، بسبب طغيانها ونسيانها لصاحب النعم، (فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ...) فصلت 15.
هناك آيات قرآنية كثيرة يرد فيها ذكر قوم عاد، ليس من أجل ذكر قصتهم وإنما لأجل العِبرة والاتعاظ من المصير الذي سلكوه، فقوم عاد منحهم الله سبحانه وتعالى النعم الكثيرة فانحرفوا وطغوا بقوّتهم، وحسبوا أنفسهم أنهم أقوياء من دون الحاجة لله سبحانه وتعالى.
صفات قوم عاد
ونذكر هنا بعض الصفات لقوم عاد المذكورة في الآيات القرآنية حتى نعرف لماذا وصلوا الى الكارثة:
حضارات الأنبياء
الصفة الأولى: إنهم كانوا أصحاب العمارة الأولى في تاريخ الإنسانية، ونقصد بالعمارة الإنسانية أنهم أول من بنى المصانع والآلات، وشيدوا الأبنية، وعندما نقرأ تاريخ الحضارات المدون فإنها تُقاس من خلال الانجازات العلمية والمادية، ولا تُقاس من ناحية الإنجازات المعنوية أو الدينية، ولذلك تلاحظون أن الحضارات المادية المدونة في التاريخ هي حضارات صنعها الطغاة، كما ترون القصور والقلاع والآثار الباقية مثل الأهرامات.
بينما الأنبياء لم يكن لهم القلاع والأبنية والحصون والأسوار الشاهقة، حتى أن البعض كان يتساءل لماذا لا يوجد عند الأنبياء آثار مادية، فهو يحسب أن النبي جاء من أجل أن يبني قلعة أو قصرا أو يبني ناطحة سحاب أو أي شيء مبهرج وصاخب يسرق الأنظار ويبهر النفوس، لكن الأنبياء جاءوا بالقيم والأخلاق، وجاءوا بالرسالات من أجل هداية البشر وتكاملهم النفسي ورشدهم العقلي.
ولكن أول حضارة بالمعنى المادي جاءت بعد قوم نوح، حيث بدأ تاريخ جديد عند البشر، وكانوا أقوياء في أجسامهم، وقدراتهم، حتى أن البعض كانوا يسمونهم بالعمالقة، فكانت لديهم قوة جسدية وقوة قادرة على صنع الأشياء عبر الآلات، وهناك روايات مختلفة في هذا الباب، حول حجمهم أو طولهم، لكن المهم أن الله أعطاهم وأنعم عليهم بالقوة.
(أَوَعَجِبْتُمْ أَن جَاءكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَاذكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُواْ آلاء اللّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) الأعراف 69.
القوة العظمى
الصفة الثانية: أعطاهم الله القوة، وكانوا قريبين جدا إلى ملحمة الطوفان، رغم ما حصل في الطوفان، وعندما تكون الأجيال قريبة تتناقل الأحداث ويعرفون ماذا حصل، (وقالوا من أشدّ منّا قوة) بحيث أصبحوا يقولون نحن الأقوى، نحن القوة العظمى في العالم، نحن المهيمنين، نحن الأشد قوة.
(فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ) فصلت 15.
وفي آية قرآنية أخرى تعبر عن قوتهم: (وَإِذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ) الشعراء 130.
لم يكونوا يمتلكون القوة والقدرة في الجسم فقط، وإنما استخدموا هذه القوة في البطش والقهر والتعسف والظلم، وهذا هو الفرق بين قوة الطغاة وقوة الله سبحانه وتعالى، فقوة الله تعالى وقوة الأنبياء هي قوة الرحمة، وقوة الطغاة والمجرمين هي قوة البطش والقهر والقتل والإجرام.
نموذج في الطغيان
الصفة الثالثة: كانوا نموذجا في الطغيان (التي لم يخلق مثلها في البلاد)، لذلك سميت عادٍ الأولى، وهي الحضارة الأولى في الطغيان عندما أُترفوا وتبطّروا وظهرت قوتهم فاستغنوا عن الله سبحانه وتعالى، وكفروا.
فكانت الحضارة الأولى في تاريخ الإنسانية (وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى)، فمن هي عادا الثانية؟، هنا ظهر الاختلاف في ذكر الحضارة الثانية، فقيل أن هناك حضارة قريبة منها أو بعدها تسمى عادٍ الثانية، والبعض يقول لم تظهر هذه الحضارة بعد، لذلك يقول الله سبحانه وتعالى (الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ)، بمعنى ليس هنالك حضارة مثلها.
ويمكن أن نقول بأن عاد الأولى هي النموذج لحضارة الطغيان، وهي الحضارة المادية الطاغية، وكلما سيأتي بعدها بنفس الصفات والعناصر شبيه لهذه الحضارة ولهذا النموذج، تكون حضارة تسير في مصير الحضارات البائدة التي دمرت نفسها بنفسها.
الحضارة المفقودة
وسمّيت حضارتها بأرم ذات العماد، هذه المدينة إرم يُقال أنها تقع بين عمان واليمن في منطقة تسمى الأحقاف، هذه المنطقة وهي الحضارة العربية الأولى، والتي تسمى الآن بالربع الخالي، وهي منطقة صحراوية كبيرة جدا ولا يستطيع أحد الوصول إليها، ولحد الآن لم يُعثَر على آثار هذه المدينة.
وسبب بناء هذه المدينة أن شداد بن عاد هو ملك عربي أحد ملوك قوم عاد من العرب البائدة، دعاه نبي الله هود إلى الإيمان بالله، فاحتج على النبي بأن ما هي مكافئة الإيمان بالله، فكان جواب نبي الله هود بأنها الجنة التي عرضها السماوات والأرض ورضا الله، فتكبر وأراد أن يتحدى الله ونبيه بأن يصنع جنة أفضل من جنة الله سبحانه وتعالى.
واستمر في بناء هذه الجنة قرابة 500 عام، زرع فيها كل الأشجار وبنى فيها قصوراً من ذهب وجواري حسناوات وشق فيها الأنهار ونثر فيها كل الأحجار الكريمة كالزمرد، فكانوا يقطعون الجبل كاملا ويصنعون منه أعمدة ويبنون فيها بنايات عالية، تشابه اليوم العمارات العالية وناطحات السحاب، فلما جهزت الجنة، أنزل الله على قوم عاد العذاب بكفرهم بالله وبرسوله وكان مصير الجنة المزعومة الخراب والدمار.
منطقة الربع الخالي أو هذه المنطقة الواقعة بين اليمن وعمان، كانت في ذلك الوقت عامرة بالاخضرار وفيها طبيعة جميلة، وكل النعم موجودة فيها، بينما الآن هي صحراء قاحلة إذا دخلها أي إنسان يضيع فيها وينتهي ويموت، لكنها كانت في ذلك الوقت ذات طبيعة زاهرة فيها جنائن وأشجار ومتوفرة فيها كل النِعَم.
يُقال في زمن العصر الجليدي، وهذه (احتمالات)، أن العصر الجليدي في شمال الكرة الأرضية كله ثلوج، وفي الوسط كان الجو معتدلا، فكانت منطقة الجزيرة العربية كلها غابات، وطبيعة جميلة، إلى أن حصلت التغييرات المناخية (كما يحصل اليوم) وانحسرت الطبيعة وتحولت إلى صحراء قاحلة بسبب تعامل البشر بصورة غير صحيحة مع الطبيعة.
فهذا الشخص تحدى الله وبنى جنة فيها الأعمدة وسواها، ولكن الله سبحانه وتعالى أنزل عليه عقابه وبالنتيجة أصبحت هذه المدينة تحت الأرض، وسميت بالمدينة المفقودة، فلم يستطع أحد أن يجد هذه المدينة، فقد بحث كثير من علماء الآثار عن هذه المدينة وقالوا بأنهم وجدوا بعض الآثار لكن هذه المدينة مدفونة تحت الأرض.
ويقال أنها مدفونة تحت الأرض بمسافة من 100 إلى 200 متر، أي أنها في الأعماق، ويُقال أنه تحت كل مدينة مدينة مندثرة وهكذا، وقد لاحظتُ هذا الشيء عندما ذهبت إلى آثار بابل، حيث سألت الشخص المسؤول عن الآثار، فقال هذه حضارة (نبوخذ نصر) بحدود 500 سنة قبل الميلاد، فسألته أين حضارة حمورابي فقال إن آثار حمورابي تحت آثار نبوخذ نصر فلا نستطيع الوصول اليها، وإذا أردنا أن نصل الى آثار حضارة حمورابي لابد أن نزيل آثار نبوخذ نصر، وقد رأيت في تلك المنطقة القصر الذي بناه الطاغية البائد صدام، وقد بنى ثلاثة كثبان جبلية، وأحد هذه الجبال فوقه القصر، والجبل الثاني موجود عند برج بابل، حيث أراد ان يربط بينها بالقطار المعلق (تلفريك).
فهذا الطاغية جاء وبنى آثاره فوق آثار طاغية ثانِ، لكن الله سبحانه وتعالى لم يمهله، فكل من يريد أن يبني ريعا من أجل التفاخر والطغيان وعبر البطش والفساد، فهذا بالنتيجة يكون تحديا أمام الله سبحانه وتعالى، فلا يحصل على العاقبة الحسنة.
- سيكون القسم الثاني تحت عنوان: السنن القرآنية في سقوط الأمم...
اضافةتعليق
التعليقات