من المعروف أن التفاهة هي ثورة تخديرية تدعو إلى التفكير برخاوة، ورمي القناعات في القمامة، لتصبح كائنات طبيعة يسهل اقتيادها ومبادلتها.
إذن علينا أن نكون واقعيين ونعترف أن من يحكم اليوم في العالم هو نظام التفاهة وأنظمتها، تلك التفاهة التي تنحدر من أنظمة الاستبداد العسكرية، وبالتالي فالمجتمعات تقاد اليوم إلى هاوية السطحية والضحالة واللامعنى.
فحتى تكون مشهوراً في مجتمع التفاهة لا تحتاج إلى أن تكون مثقفاً المعياً، ولا مناضلاً نقياً، وإنما تحتاج أن تكون تافهاً سطحياً، من دون وعي وأفق، فالذي يجمع في شخصه بين التفاهة والسطحية هو الذي سيجمع ملايين (اللايكات) والمشاهدات، وبالتالي هو الذي سيتبعه المجتمع، وهو الذي يشكل الرأي العام للمجتمع، ومع الزمن سيستطيع تغيير ثوابت المجتمع العقدية والفكرية والثقافية، وهو من يسمونه العلامة والفهامة في نظام التفاهة السائد.
ومنذ سيطر نظام التفاهة على العالم لم تعد بحاجة إلى أن تسجن لسنوات طويلة، وتدفع الثمن غالياً دفاعاً عن حلم سياسي، أو مبدأ علمي، أو حقيقة تعتقدها، ولا أن تجهد عقلك ونفسك بالقراءات والكتابات، ولا أن تمضي شطراً من عمرك في أقبية المختبرات، لتركيب المعادلات وإجراء التجارب لإنتاج نظرية علمية، أو صناعة عقار يخلص الإنسانية من آلامها، فكل هذا لن يقابل بالاحترام الذي تنتظره، ولا بالاحتفاء الذي سيسعد قلبك وروحك، لأنك ببساطة جدي، ولست تافها.
فالتفاهة تدل على انتفاء القيمة الأخلاقية، فالتافه هو عديم القيمة والصلاحية، والتفاهة تدل على الحضيضية في التفكير، فغايتها إخراج جيل لا يفكر بالاحتجاج ولا المطالبة بتوزيع الثروة، والعدالة الاجتماعية، أو المشاركة في صناعة القرار، فلا يهم هذا الجيل سوى الفوز في لعبة كلاش أوف كلانس أو بلعبة البوكيمون أو الفيفا، أو البوبجى!! هذا من جهة الشعب في الدولة التافهة.
أما من جهة السلطة التي تكون على رأس الهرم في الدولة التافهة متمثلة برئيس الدولة ومجلس الشعب وغيرهم من المتنفّذين، فإنهم أهل المال والجاه، وبالتالي فهم يسخرون جميع مقدرات الدولة وثرواتها في خدمة تفاهاتهم ولا مانع لديهم من إقحام البلد في حروب عبثية، لا فائدة منها، من أجل تحقيق أهدافهم، أو من أجل القضاء على حالة التفكير العميق والسليم أو بقاياه التي لا تزال في المجتمع وفي المجتمعات التي سيطرت عليها التفاهة لا اهتمام للأجيال التي تخرجها التفاهة إلا بأخبار نجوم التمثيل والغناء، ونجوم هوليود، ونجوم التعري، وأفلام الإباحية الجنسية، فترتفع نسب الاهتمام بمثل هذه الحالات بشكل (صاروخي) مقارنة مع المهتمين بالحالة الثقافية والتعليمية والفكرية على شتى مجالاتها ومفرزاتها. وهذه الأجيال ستكون جاهزة للانقياد، بل وإلى أكثر من ذلك، ستكون جاهزة لحمل السلاح في أي وقت دفاعاً عن الحاكم التافه الذي يكون قد صوّر نفسه في عيون التافهين على أنه إله، وأنهم سيفقدون تفاهاتهم - والتي يرونها قمة النعيم والرقي والراحة- إن وقفوا ضده، أو فرّطوا فيه فلا مبدأ ولا قيمة أخلاقية أو دينية يدافعون عنها..
فالبعض يعتقد أن التفاهة جاءت نتيجة لحالة الرقي والتقدم الاقتصادي مما دفع الناس إلى الاهتمام بالثانويات، وهذا غير صحيح، لأنه يلزم منه أن الشعب قد تحققت له الضروريات والحاجيات، ولا تكاد تجد ذلك في مجتمع سيطرت عليه التفاهة، فالتفاهة حالة مجتمعية تظهر في جميع المجتمعات الغنية منها والفقيرة، التي تدور فيها حروب طاحنة، والتي تخلو منها، والتي توفرت فيها جميع سبل الحياة الكريمة، من رعاية صحية، ونظم تعليمية متقنة، وتلك التي لم تعرف إلى هذه الأشياء سبيلاً وطريقاً.
والواقع المشاهد يدل على أن هذا النظام يجتاح العالم في حين يقف المثقف والعاقل والعميق متفرجاً لفقدانه أدوات التأثير كالسلطة والاقتصاد والخطاب وغيره، ولذلك ألف باسكال بونيفاس كتابه المثقفون المزيفون ليشير إلى أن أكبر خطر يتعرض له العلم والعالم، هو المثقفون الذين يتخذون الكذب والخيانة العلمية، وهم في صف واحد مع الحكام التافهين، بل يسميهم باسكال بالمرتزقة وهم عبارة عن مثقفين خلاصة عملهم واهتمامهم بالحياة أن يعملوا من أجل توفير المناخ المناسب لتسويق كذب الحكومات وتفاهاتها، وبالتالي تصبح هذه التفاهات ذات مصداقية لكونها خرجت من قبل المثقف الذي يعد ذا مصداقية في أوساط المجتمع، وهو يتكلم عن ذلك في المجتمع الفرنسي الذي عاش فيه، والذي تتوفر فيه كما نعرف الديمقراطية والمحاسبة والنزاهة وغيرها، فكيف إن طبقنا نظريته على المجتمعات العربية التي تكاد تأكلها التفاهة، سلطة وشعباً.. فهؤلاء المثقفون التافهون هم الذين زرعوا في فكر الشعب التفاهة، وهم الذين جعلوه مستقلاً عن كل جدية، بل خرجت عندنا أجيال يحفظون تفاصيل من سفاسف التفاهة كحياة اللاعبين والمغنين والممثلين وأولادهم وزوجاتهم ومسكنهم ومتى تزوجوا ومتى سافروا! في حين أنه لا يعرف مما يجب أن يعرف من أصوله الدينية والفكرية شيئاً، والتي عليها مدار التمييز عن غيره، فالعربي مثلاً يتميز عن غيره بهذه الأشياء".
وهكذا تسهم التفاهة، في خلق حالة عالمية واحدة مبنية على ضحالة المعرفة والتفكير فيصبح العالم واحداً، لكنه يسير إلى وجهة واحدة، وهي الهاوية والهلاك.. والتفاهة تمتلك جاذبية كبيرة، فصناعتها سهلة وميسرة؛ لضحالة المحتوى المطلوب، ونشرها أسهل مما يتصور، والتفاعل معها لا يتوقف، فلها جمهور واسع ويكبر مع الوقت والواضح أن الأقزام التافهين باتوا يظهرون بمظهر العمالقة، ويسيطرون ويحكمون قبضتهم على كل شيء، فأخذوا زمام المبادرة، ورسن توجيه المجتمع وتخطيطه الاستراتيجي بتحكمهم في المال والسياسة، وتفاهتهم هذه لا يجيدها المثقفون، لأن المثقفين يلتزمون بمنظومة قیم لا يملكها التافهون، ولا يتنازلون عنها، لا يراوغون، ولا يهادنون، ولا يستسلمون في سبيلها".
ونحن هنا نتكلم عن المثقفين التقليديين الذي يعيشون حياتهم في خدمة أفكارهم وتطويرها، وتغيير المجتمعات التي يعيشون فيها نحو الأفضل، ونحو الرقي، ونحو التفكير السليم، وهنا يشير باسكال بونيفاس في كتابه المثقفون المزيفون إلى حالة عدم إمكانية المثقفين الحقيقيين جمع حالة العرض التافه الذي يقوم به أولئك التافهون والمزيفون، وبين حالة التفكير السليم، أي لا يمكنهم أن يكونوا مفكرين ومثقفين وفي اللحظة ذاتها يكونون مروجين لتفاهات المجتمعات...
والمثقف الحقيقي عندما يوضع في هذا الموضع سيحرج، لأنه يكون في بيئة لا يفهمها، ولا تفهمه، إنها بيئة التافهين الذين لا يعطون لشيء قيمة، في الوقت الذي يعطي فيه المثقف والمفكر كل شيء قيمة التي يستحقها، وفي هذه الحالة سيضطر المثقف إلى التنحي جانباً، أو إلى الغرق في هذه التفاهات.. وما تصنع الفلسفة في بحر من التفاهات!! وما تصنع الموعظة في بحر من التفاهات!! عندها، تخلو الساحة للتافهين، يعرضون بضاعتهم، ويسوقونا لمجتمع إلى حتفه وحتفهم إذ أنهم حالة مؤقتة، لا يمكنها أن تدوم طويلاً، لأنها ساذجة، فمهمتهم نقل المجتمع من حالته الجدية إلى حالة اللامبالاة، وبالتالي السقوط في الهاوية..
فالتفاهة مرض خطير، عضال أخطر من السرطان، بل وباء، يصيبنا بالذبحة الفكرية والثقافية والروحية، حيث باتت تسيطر على منطق الأمور والحياة، حيث خداع القيم، وانهيار الحضارة، وتفكك الثوابت المجتمعية، وهوما يعني انتعاش منظومات القيم العاملة على استعباد البشر وامتصاص طاقاتهم المتمردة لصالح حاكم تافه.
اضافةتعليق
التعليقات