إن من ضيق النظر، وسفيف الفكر، وقصور العقل، وضنك الإدراك أن يتخيل أحد أنه مادي محض، لا يربطه بالروح وشيجة، ولا يعلق بما وراء الطبيعة بعلاقة، ولا يجمعهما حبل، ولا تشملهما صلة.
تبرهن العلوم الحديثة على أن الإنسان لم يخلق من مادة فقط، وإنما هو مزيج من مادة وروح: المادة تقوم بالواجبات المادية، والروح تقوم بالفكر والاختراع.
إذا بطلت المادة، فبقيت هامدة، ولفظت جوهرها العلوي الشريف، فقد أثبت علم النفس أن الروح تبقى، ودعم العلم التجربة التي يقوم بها أصحاب التنويم المغناطيسي الذي صار في عصرنا الحاضر من أوليات المعلومات، لا ترفرف حائمة الشك عليها، إن بقاء الروح لما يدهش الإنسان أترى تبقى في نعيم وسعادة، وتحلق في أجواء الهناء تحليق الحمامة البيضاء في القبة الزرقاء؟ أم تبقى في بؤس وشقاء وعذاب وألم؟ هذا هو الشغل الشاغل للعلماء الروحيين.
كشف القناع عن وجه هذه المشكلة، وحل هذه المعضلة الشرائع الإلهية بما فيها من المجوسية واليهودية والنصرانية والإسلام، ترى الديانات أن الروح تبقى في إحدى الحالتين:
إما روح وريحان، وجنة ورضوان، بين حور وغلمان، في بلهنة من العيش آمنة وادعة فاكهة، لا يحزنه فزع، ولا ينتابه مضض، ولا يدخله هم، ولا يجد الألم إلى قلبه، والمرض إلى جوارحه سبيلا، وإما عذاب أليم، ونار وجحيم، في حزن وانكسار، وذلة وصغار، لا يعرف له قدر.
ثم إن الديانات لم تجعل هذه النتائج وليدة الصدفة، بل جعلتها منجومة من الأعمال، فإن طوى الشخص عمره فضلاً وكمالا، وبراً وإحسانا صدق، وأخلص وجد، وتواضع وواسى، وأحسن ووفى بوعده، وآمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، وصلى وصام وحج، وأطاع، ولم يفسد في الأرض.
إن الإصلاح في جامعة اتجهت نحو جهة الفساد من أشكل الأمور، فمن يريد الإصلاح في مثل هذه الجامعة، يكون حاله حال من يريد تقويم دوحة معوجة، أو من يريد تعديل شط عظيم، فيعمد الأول إلى فأسه فيقطع أعواداً منها، ويعضدها عضداً، ويأخذ الثاني ظرفاً يغرف به بعض الماء ليصبه في طرفي الشط، حتى يكون هذين المائيين بضميمة الشط ماءاً مستقيماً!! ولو فرض أن هذين العملين في بعض الأحيان ينفع بعض النفع فإن ذلك ليس إصلاحاً باهراً ونجاحاً مرموقاً، فإن المجتمع الفاسد كالقصر الذي تضعضع أساسه، وبليت قواعده، فإنه لا يصلح بترميم بعض أساطينه أو تبييض بعض جدرانه.
المجتمع الفاسد يلزم هدمه من أصله، وبناء مجتمع جديد من الأساس، كما أن من يريد أن يشتمل روضه على أشجار مستقيمة يلزم عليه أن يقطع كل ما أعوج من شجره، ويغرس مكانها شجرة أخرى، ومن يريد تقويم الشط احتاج إلى طم الشط السابق، وحفر شط جديد مستقيم ومن يريد سكنى قصر فخم، افتقر إلى هدم القصر السابق، وبناء قصر حديث.
هذه طريقة الاصلاح، يعرفها كل بدوي وقروي، في أعماله اليومية، وأثاث داره، وأشجار حقله، وأعواد كوخه، ولذا نرى أن المصلحين هادمون بانون في وقت واحد.
وجامعة المسلمين في هذا اليوم كتلك الجوامع التي لعبت بها أيدي العابثين، فأصبحت تحتاج إلى تجديدها من الأساس، مادام الخمر تتمتع بإجازة من الحكومات، ومادام الخمار لا يعاقب بعقاب صارم، ومادام بيوت الدعارة تفتح على رؤوس الأشهاد ولا يعاقب الزاني، ومادام القمار له المكانة السامية أندية ودور راقية، ومادام الربا قسم من التعامل لا يتحاشى عنه القانون، ومادام التبرج يتنعم بالحرية، ومادام الحرام مغنماً والزكاة مغرما، ومادام البرلمان يشرع القانون على خلاف نصوص القرآن والشريعة، ويتحدى السنة ويقول: (سأنزل أفضل مما أنزل الله)!!
إن المسلمين مادامت هذه الأمور، لا يقوم لهم قائم، ولا يرجى لهم مستقبل، ولا يتمكنون من إنقاذ أنفسهم من مخالب إحدى الدول القوية، ترك المسلمون دينهم وقرآنهم وسنتهم، رغبة في المدنية الزاهرة بمصانعها ومعاملها، ونعمها ورفاهها، وعلمها وعلمائها، وسطوتها وقوتها، وحريتها وبهارجها، وأرضها وسمائها، وبحرها وبرها، فلم يفيدوا الأول ولم يستفيدوا الثاني، أصبحت صحاريهم يبايا، وبلادهم خرابا، وعزهم ذلا، وقوتهم ضعفا، وإمبراطورتيهم عبدا، وأخوتهم عدواه، هيهات هيهات أن يرجع إلى المسلمين سؤددهم، وأن يتمكنوا من التخلص من هذه الحبائل التي اقتنصتهم، والمصيدة التي احتوشتهم، حتى يرجعوا إلى قرآنهم ودينهم وأخلاقهم وكبرائهم.
أول ما يدعو القرآن هو الأخوة التي بها قوتهم، وفيها شوكتهم وإليها مرجعهم، ومنها مصدرهم، فإن شاء المسلمون العزة والنصرة كان عليهم أن يخلعوا ثوب القانون البالي، ويلبسوا ثوب الإسلام القشيب، فلا تشريع ولا قانون، ولا مجلس ولا برلمان، ولا إرادة ملكية، ولا سيطرة أجنبية، ولا عداء بين بلاد الإسلام، ولا قومية، ولا مبادئ مستوردة.
أما ما يرومه المصلحون في إطار هذه المدنية الزائفة، فأقرب منه مناط الثريا، وسأضرب مثلاً لذلك: السباق الذي ولد في عصر الملوكية في العراق، كان يمتص أموال الشعب امتصاص العلق دماء الجسم، وكان المصلحون يملؤون الدنيا صياحاً ونياحاً، بمضرة ذلك، ولم يكن الأمر مما يخفى على المسابقين، فقد رأوا بأم أعينهم ما جر عليهم من الوبال والخراب، والفساد واليباب، وبالعكس من كل ذلك، فقد كان يزداد عدد المسابقين بصورة هائلة، حتى منعت الحكومة ذلك، وأغلق قاعة السباق، فرجع الناس إلى ما كانوا، وانتفعوا بما وفره عليهم هذا الحكم من المال، وكذلك حال الخمر والفجور والربا وما إليها، فإن تمكن المصلح من هدم أساس ذلك هدماً لا مرد له، تغيرت الحالة، وتحسن المجتمع، أما النصح والوعظ والانذار والارشاد، والجنة والجحيم، والعذاب والنعيم بوحدها، فنتيجتها ضعيفة ولم يكن القاتل بذلك مغالياً ولا جائراً.
إن المسلمين نهضوا في هذه الأواخر ناهضات مباركات، ولم يبق إلا الاتحاد فيما بينهم، واستبدال القانون المستورد بالقرآن، حتى يرجع عزهم ودينهم ودنياهم وآخرتهم..
يدخل التلميذ المدرسة وقلبه أنقى من اللجين، وأصرح من المرآة، وأصفى من الماء الزلال، وهو مستعد لتلقي كل ما يرد إليه من المعلم أو التلاميذ الحافين به، استعداد الآلة اللاقطة لأخذ أمواج الصوت، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، والمعلم أمين على ثقافته وأدبه وأخلاقه وعرضه، وهو أعظم الأمانات بين يديه، مسؤول عن كل ما تنطبع فيه حتى خائنة الأعين، وما تخفي الصدور، فإنه كالشمع في كفه يتقلب به كيف يشاء، ويشكله بما يريد، فإنه مستقى أفكاره، ومنبت عقله، ومغرس نباته، ومنجم جوهره.
وكما إن التلميذ يحتاج إلى علم وثقافة، ليرتقي به عن حضيض الجهلاء إلى أوج العلماء، ويأخذ بيده في مجاهل الكون إلى معالمه، ويهديه سبل الحياة، ويريه النافع عن الضار، والجادة عن المهوى، إن العلم والأدب كلاهما يهديان إلى الخير، وينيران طريق الحياة المظلم، ويعبدان سبيل البقاء الوعر، لكن العلم لا ينتفع به إذا لم يقترن بالفضيلة، بل ربما ينقلب العلم جهلاً، والثقافة وبالا، حيث يزداد حامله كبراً وفخرا، يصعر خده، ويبرز صدره، ويمشي مرحا، ويهتز فرحا، فهو كالنهر الذي إن عهده الشخص، بكري قراره، وبناء السدود في وجهه انتفع به لروضه وحيوانه، لمأكله ومشربه، ومستحمه وملبسه، ومضجعه ومنتزهه، وإن أغفل شأنه وتركه يجري كطبيعته، لم ينتفع به، بل ربما القلب وبالا وفساداً بالانتشار في الأراضي المنحدرة والتجمع في الوهاد مما يسبب التعفن والأوبئة، وكثرة البعوض اللاذعة والأمراض الجازعة.
التلميذ إلى ملكة الصدق أحوج منه إلى علم الحساب، وإلى حب الخير من الهندسة، وإلى صفة الشجاعة من الفيزياء، وإلى فضيلة العفة من الجغرافيا، الصدق يعينه فيما لا يعينه علم، وحب الخير ينفعه فيما لا تنفعه ثقافة، وهو إلى أن يعرف كيف يعاشر أبويه إذا كان في ظلهما، ويسلك مع زوجه وأولاده إذا نكح وولد، وكيف يتودد إلى الناس، وكيف يبيع ويشتري، ويرحم ويعطف، أحوج منه إلى معرفة التاريخ والكيمياء، والانشاء والاملاء.
إن التاريخ لم يوضع إلا ليستنتج الشخص نتائج أعمال الماضين، فيأخذ الحسن، ويترك القبيح، ولم يكتب الجغرافيا إلا ليرى وضع البلاد ويعرف صنوف الخلق وأخلاقهم وأعمالهم، كي يأخذ ما ينفعه ويترك ما لا ينفعه، ولم يرقم الحساب إلا ليحاسب أمواله فلا يبذر ولا يقتر، ولم يقنن الهندسة إلا ليتمكن من بناء الدار وشق الأنهار ليسكن تلك برفاه ويستثمر هذا بدعة، فإذا لم ينتفع بهذه العلوم فيما وضع لها، ولم يهتد بها طريق مشيه في حله وترحاله، وانزوائه وعشرته، وأخذه وعطائه فحاله أشبه شيء بالأعمى الذي لا يبصر وإن كان يعلم معالم الطريق، يتمكن من هداية غيره بذكر أوصاف العلائم، ويتردى هو في بئر أو يهوي به العمى في مكان سحيق.
اضافةتعليق
التعليقات