إن الاقتراب من الفهم العميق لحكمة الدنيا والآخرة يشتمل على الربط المباشر بينهما، أن تُرى الدنيا بمنظار الآخرة، حتى في أكثر الأمور دُنيويةً، أن يأكل المرء فيستشعر عُمق حكمة قوله تعالى "وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَاب". 1
أذكرُ موقفاً حدث معي قبل فترة، لكنه رسخ في عقلي وتأملته مطولاً. كنتُ أشتري عصيراً من متجرٍ للعصائر والآيسكريم، وانا أطلب العصير عادةً دون سُكر، فقلت للفتى الذي يُعد الطلبات ذلك كي يتذكر، فلم يسمعني بسبب أصوات الخلاطات العالية، فلما هدأت الآلات وبدأ يسكب العصائر، قلت له إنني أريده دون سُكر، وكان قد وضع سكر في الخلاط بالفعل! فأكمل سكبه وجهزه ثم أعطاه لفتاة كانت قد طلبت ٣ عصائر فقط، فقال لها هذا الرابع ضيافة من المتجر! وراح يُعد لي واحداً جديداً دون سُكر. تأملت الموقف بعُمق حينذاك، وقلت في نفسي، سُبحانه! يرزق دون حساب.
الربط بين الدنيا والعالم الحتمي النهائي، يتطلب ارتداء نظارات خاصة لا تُشترى إلا بالابتلاء والنضج البطيء، حيث إن إمكانية عيش لذائذ الأرض من دون الانغماس في الدنيا يحتاج مقدرة عظيمة، أن يتمتع المرء بعطايا الله دون الانهماك فيها كأنها شيءٌ حتمي وثابت الوجود، بل كونه مُحركٌ رئيسي للسعي نحو مصدر العطاء الأكبر، نحو مورد اللذائذ والأرزاق.
أن يتأمل الرجل أهل بيته، ينظرُ إلى زوجته فيتذكر "وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا" أن يعاملها بعطفٍ ورأفةٍ مُجسِداً: "وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَة"(2). لذّة الأنس بالدنيا وزينتها لا يكتمل إلا حين يمتزج بنكهة الآخرة، وما أقلّهم أولئك الذين يشتبكُ العالمين في جوفهم، يعيشون روحيّة السماوات بأرضٍ واسعة، ولا تزيدهم رغبات الدنيا فيهم إلا تقرباً من رياض المعشوق الأبدي.
ينبغي على المخلوق أن لا يقع في فخ الفصل بين العالميّن، فإنه حين يعيش كأنه قابعٌ في الدُنيا دون انتقال للعالم الثاني، فإنه يتحوّل إلى أداةٍ طيّعة تُحركه خيوط الحياة الفانية، تُحيله إلى دابةٍ لا تعرف إلا الاستهلاك والاعتياد على المتوفر لها ولا تنتظر إلا أن ينقضي اليوم ليبدأ الغد وتنال منه ما قُسم لها، إنها عملية تناولٌ مستمر دون أن يهدف إلى شيء ودون أن ينتجُ عنه ثمر.
وإن من يحيا متصوفاً زاهداً في الدنيا تمام الزُهد، لا يحيا فيها إلا منهكاً متعباً يكادُ لا يذوقُ فيها طعاماً ولا شراباً خوفاً من أن تُبّدِل الجحيم مسراته لحروقٍ لا شفاء لها، وتعاقبه على ابتسامةٍ ترتسمُ على محياه. ينزوي بنفسه عن الناس لا يألفهم ولا يألفونه، كأن مفاتيح الفردوس الأعلى تكمن في شقاء نفسه وحرمانها. إن السعيدُ الآمن، يسعى إلى نيل فلاح الدنيا والآخرة، وهو من يوازنُ بين الكفتين، فلا يُحرمُ في الأولى ولا يُعاقبُ في الآخرة.
(1) سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ: الآية/ 37.
(2) سُورَة الروم/ الآية/ 21
اضافةتعليق
التعليقات