تُعد اللغة العربية ركناً من أركان التنوع الثقافي للبشرية. وهي إحدى اللغات الأكثر انتشاراً واستخداماً في العالم، إذ يتكلمها يومياً ما يزيد على 400 مليون نسمة من سكان المعمورة.
اللغة مثل الكائن الحي الذي يتمثل في دينامية خاصة، وبالتالي فهي كالمؤسسة المتغيرة والمتطورة، ولكنها تبقى تعبيراً وتجسيداً عن هوية وذاكرة وتاريخ، وتعكس حضارة وفكراً وإنتماءً، واللغة العربية هي اللغة الأم، وفي ظل ثورة العلم والتكنولوجيا، وفي صراع الحضارات والعولمة التي تؤثر في مختلف مناحي الحياة، تبقى صبغة مرنة وحاضنة لشتى أنواع المتغيرات والمؤتمرات، لأنها لغة القرآن، لا خوف عليها من التبدل أو التغير، فستستمر غنية قادرة على التفاعل واحتواء هذه المتغيرات، بثراء وغنى معرفي ولغوي دقيق.
نشأتها
إن بداية اللغة العربية لا زالت مجهولة وذلك لجهلنا معالم تاريخ العرب القدامى وأقدم نقوشهم الموجودة (على قِلَّتِها) يرقى إلى القرن الخامس أو السادس الميلادي (النص القرآني في القرن السابع). هنالك العديد من الآراء والروايات حول أصل العربية لدى قدامى اللغويون العرب فيذهب البعض إلى أن يعرب كان أول من أعرب في لسانه وتكلم بهذا اللسان العربي فسميت اللغة باسمه، وورد في الحديث الشريف أن نبي الله إسماعيل بن إبراهيم عليه السلام. أول من فُتق لسانه بالعربية المبينة، وهو ابن أربع عشرة سنة ونَسِي لسان أبيه، أما البعض الآخر فيذهب إلى القول أن العربية كانت لغة أبينا آدم في الجنة، إلا أنه لا وجود لبراهين علمية أو أحاديث نبوية ثابتة ترجح أي من تلك الادعاءات.
لو اعتمدنا المنهج العلمي وعلى ما توصلت إليه علوم اللسانيات والآثار والتاريخ فإن جل ما نعرفه أن هناك لغتين تفرعَّت عنهم سائر اللهجات العربية، هما لغة عربية جنوبية و لغة عربية شمالية.
كانت اللغة العربية الجنوبية تختلف عن اللغة العربية الشمالية، حتى قال أبو عمرو بن العلاء (770م) : "ما لسان حمير بلساننا ولا عربيتهم بعربيتنا" فلغة الجنوب أكثر اتصالا باللغة الحبشية والاكادية بينما لغة الشمال أكثر اتصالا باللغة العبرية والنبطية. ويعتقد بعض العلماء أن لغة الجنوب احدى أصول لغة الشمال معتمدين على النقوش المكتشفة في اليمن اذ تتطابق فيها بعض العبارات لفظا وتركيبا.
ترجع أقدم النقوش العربية الجنوبية إلى الحميرية والمَعِينية والسبأية والقتبانية القدامى. أما العربية الشمالية فهي الأقرب للآرامية.
تعتبر اللغة العربية من اللغات السامية التي شهدت تطوراً كبيراً وتغيراً في مراحلها الداخلية، وللقرآن الكريم فضل عظيم على اللغة العربية حيث بسببه أصبحت هذه اللغة الفرع الوحيد من اللغات السامية الذي حافظ على توهجه وعالميته؛ في حين اندثرت معظم اللغات السامية، وما بقي منها غدا لغات محلية ذات نطاق ضيق مثل: العبرية، والحبشية، واللغة العربية يتكلم بها الآن قرابة 422 مليون إنسان كلغة أم، كما يتحدث بها من المسلمين غير العرب قرابة العدد نفسه كلغة ثانية.
لم يعرف على وجه الدقة متى ظهرت كلمة العرب؛ وكذلك جميع المفردات المشتقة من الأصل المشتمل على أحرف العين والراء والباء، مثل كلمات: عربية وأعراب وغيرها، وأقدم نص أثري ورد فيه اسم العرب هو اللوح المسماري المنسوب للملك الآشوري (شلمانصر الثالث) في القرن التاسع قبل الميلاد، ذكر فيه انتصاره على تحالف ملوك آرام ضده بزعامة ملك دمشق، وأنه غنم ألف جمل من جنديبو من بلاد العرب، ويذكر البعض - من علماء اللغات - أن كلمة عرب وجدت في بعض القصص والأوصاف اليونانية والفارسية وكان يقصد بها أعراب الجزيرة العربية، ولم يكن هناك لغة عربية معينة، لكن جميع اللغات التي تكلمت بها القبائل والأقوام التي كانت تسكن الجزيرة العربية سميت لغات عربية، وهي لغات متطورة، ومنها لغة عاد وثمود وسواهم، وكانت لغات متقاربة، وتتطور حيناً بعد حين، وتتغير، ومن تلك اللغات القديمة اللغة المهرية المستخدمة حتى الآن في ثمود وسوقطرى، ولم تكن تلك اللغات تكتب بالأحرف العربية التي نعرفها الآن، ولكنها مرت بعدة تحولات كما سيأتي.
أسباب تراجع لغة الضاد
من الأسباب التي أدت إلى تراجعها، أولاً: المراحل التعليمية الأولى وتحديداً الابتدائية لا يوجد بها الاهتمام الكافي بهذه اللغة، مروراً ببقية المراحل التعليمية ووصولاً إلى الجامعة، إضافة لعدم اهتمام المجتمع نفسه بها كلغتنا الأم في مقابل التأكيد على الإنجليزية كلغة العصر واعتبارها لغة الصفوة .
ثانياً: تواجه الشباب بعد الانتهاء من الدراسة وهي أن أصحاب الأعمال يشترطون إجادة الإنجليزية للحصول على الوظائف، في الوقت الذي لا نجد فيه إتقان العربية شرطاً للحصول على أية وظيفة .
ثالثاً: هناك عوامل نفسية كثيرة تتسبب في نفور بعض الشباب من لغتهم وأهمها الاعتقاد بصعوبة تعلمها وإتقانها، وقد تعود هذه الأسباب لمعلم اللغة العربية نفسه الذي يعاني من قصور في إعداده وقدرته على إيصال المعلومة وتقديمها بطريقة مبسطة.
رابعاً: إن العربية تتراجع رغم الجهود التي تبذلها الدول، لأنه ليس هناك إرادة حقيقية للحفاظ عليها والارتقاء بها .
وعدم اهتمام الأسر العربية بتعليم الأبناء لغة الضاد، فالأسرة العربية لا تنفصل عن المحيط السياسي والاجتماعي . حين تغلب على المجتمع لغة السوق، ويخضع العلم لحاجات سوق العمل الذي يخضع بدوره لتطلعات اقتصادية لا حدود لها وأرباحٍ مادية على حساب الإنسان والقيم والمبادئ يصبح الحديث عن الاهتمام بالعربية ترفا وربما تخلفاً . وليس مستغرباً أن تجد بعضهم يتحدث عن تخلف العربية في الوفاء بمتطلبات العصر ومستجداته الثقافية والتكنولوجية.
وفي الحقيقة اللغة لا تتخلف، إنما يتخلف أهلها حين يبحثون عن أقصر الطرق لمواكبة الجديد بتعلم اللغات الأخرى، الأسرة العربية الآن متنازعة بين الحفاظ على الموروث الثقافي والفكري والانفتاح على الآخر .
خامساً: اللغة العربية رغم تراجعها لن تختفي، فهي محفوظة من الخالق لأنها لغة القرآن الكريم، لكن المشكلة تكمن في طريقة تعامل أبنائها معها. إذ نجد أن وسائل الجذب والتحفيز على تعليم هذه اللغة في المدارس غائبة، ودائماً تقدم بشكل جامد وصارم عكس اللغات الأخرى، كما أن الأسرة العربية الآن أصبحت تتباهى بتحدث أطفالها الإنجليزية على حساب العربية، ومهما حاولنا إقناع الأم بأن هذا الأمر خطأ فكلامنا مرفوض .
فوسائل الإعلام من أهم أسباب تراجع الاعتماد على اللغة العربية الفصحى بعد ظهور العديد من البرامج الحوارية التي يكون الاعتماد فيها على اللهجات المحلية للدول صاحبة البرنامج، أما البرامج الإذاعية فكلها تحولت لبرامج جماهيرية خفيفة تعتمد على الغناء والفواصل . وأضافت فنحن بحاجة إلى وجود برامج تتخذ من العربية الفصحى أساساً لها .
سادساً: هو التعرض للغتنا الجميلة لانتهاكات كثيرة، هدفها ضرب هذا المتراس الثقافي الذي يعتبر علامة بارزة من علامات توحيد هذه الأمة وارتباطها بلغة القرآن . وجرت هذه الانتهاكات تارة باستخدام اللهجات المحلية وأخرى ببعض الألفاظ من الإنجليزية أو الفرنسية، لكن الطامة الكبرى ظهرت في السنوات الأخيرة بعد انتشار العديد من القنوات فيما عرف ب"غابة الفضائيات"..
فهذه الفضائيات اعتمدت على العديد من المذيعين والمذيعات الذين لا ينطقون العربية بشكل سليم، ولهذا استخدموا بعض اللهجات العامية، واعتبر طغيان هذه اللهجات مؤشراً خطراً على انحدار العربية . فتنازل العديد من الإعلاميين عن معايير النطق السليم، التي من شأنها التسبب في مزيد من التلوث السمعي .
سبل الحفاظ عليها من الانقراض
من الواجب علينا أن نحافظ على لغتنا وألا نقبل أن تمتزج هويتنا العربية بأي هوية أخرى. فلقد كان الغرب سابقاً يسارعون إلى تعلم اللغة العربية حتى يتعلموا ويستفيدوا من عظماء ومخترعي العرب في ذلك الوقت، لكن للأسف انقلبت الآية في هذا الزمان.
لقد أصبحت المجتمعات العربية تركّز في التعليم على اللغات الأجنبية أكثر من اللغة العربية اللغة الأم، بل إن بعض المفردات من العربية تكاد تندثر أو اندثرت إلا من الكتب والمخطوطات القديمة، فقد نسيت تلك المجتمعات - أو بالأحرى تناست - أن اللغة العربية هي لغة القرآن، ولولاها ما عرفنا معاني الكلمات في القرآن، بل حتى الدول التي هي أصل العربية تجد أنهم لا يتحدثون باللغة العربية الفصحى بل بلهجات محكية وبإحلال مفردات أجنبية وهذا للأسف أمر محزن ومأساوي، لكن في المقابل نقدر مجهودات وأدوار بعض الجمعيات والمنظمات المهتمة بالعربية التي تسعى لاستعادة مكانة ومنزلة لغة الضاد في نفوس المجتمع، لكن هذه الجمعيات والمنظمات موجودة بنسب قليلة وغير كافية..
إن من أسباب انهيار اللغة العربية في معظم الدول العربية هو اعتماد وسائل الإعلام على الخطابات العامية التي تفتقر إلى قواعد اللغة العربية، حيث إن بعض القنوات العربية الخاصة الآن تبث الفقرة الإخبارية باللهجة العاميّة، كما تستخدم الصحافة المحلية في العديد من الدول العربية الآن العامية الدارجة في الكتابة، مُطعمة بها اللغة الفصحى، وهو ما يبدو كأنه محاولة لتكوين لُغة بديلة في كلّ قُطر من الأقطار العربية.
لا بد من نشر الوعي لدى الأمة بأهمية اللغة، والاهتمام بتخريج المدرس الناجح الذي يحب لغته، ويعمل على ترسيخها في عقول وقلوب التلاميذ، والعناية بالمناهج وحسن اختيار ما يقدم للناشئين.
وأيضاً الاهتمام بغرس محبة اللغة في نفوس التلاميذ عن طريق تعويدهم على قراءة بعض أشعار الأطفال، والمقطوعات النثرية السهلة، وسماع اللغة العربية الفصحى من خلال سماع الإذاعات التي تبثها القنوات الهادفة، وأيضاً إنشاء المجلات الأدبية التي ترغّب الجماهير في العناية باللغة وآدابها، وضرورة إيجاد قاموس عربي عصري يتجدد كل عام أو عدة أعوام، وتدخل فيه الكلمات الجديدة.
كذلك من الضروري تبيين الأخطاء اللغوية الشائعة والتشهير بها وتصحيحها كي يتجنب الناس الوقوع فيها.. أيضاً على "البلديات" الاهتمام باللوحات الإعلانية في الشوارع والأسواق والمحلات التجارية وعرضها على متخصص قبل تعليقها نظراً لوجود أخطاء فادحة في بعضها، ونحن نعلم مدى أهميتها وتأثيرها لأن من يقرؤها يعتقد بصحتها..
والسؤال المطروح هنا: هل لغتنا العربية ستندثر؟ والجواب قطعاً هو لا.. فلا يمكن للغة القرآن أن تتعرض للاندثار، فكما حفظ الله كتابه الكريم فإنه حافظ للغة ذاك الكتاب العظيم..
ختاماً؛ يجب أن نذكي في نفوس الناس أهمية لغتنا ومكانتها وأنه لا غنى لنا عنها، كما يجب أن نعتز بها لا بغيرها من اللغات كما هو الحاصل عند بعض الناس مع الأسف..
اضافةتعليق
التعليقات