من المقاييس التي يتم الترويج لها في عالمنا اليوم هو ما مفاده [أن الحياة المتوازنة الناجحة في العلاقات الاجتماعية قائمة على التساوي بين العطاء والأخذ بين بعضنا البعض، أي بمقدار ما أعطيك تعطيني، بمقدار ما أقدم تقدم، بمقدار ما تنفعني أنفعك، بمقدار ما تصلني أصلك!]، وهذا المقياس يريدنا أن نتعامل بما فيه إهمال لتزكية نفوسنا، وتربيتها، وفيه محاولة لإبعادنا عن أي سلوك يَحمل صبغة إلهية!.
وهنا يأتي شهر رجب ليُعيدنا للمقياس الإلهي الذي علينا السير وفقه كعباد لله تعالى، إذ نقرأ في أدعيته - التي يُستحب تكرارها في كل يوم- هذه الفقرات: [يَا مَنْ يُعْطِي الْكَثِيرَ بِالْقَلِيلِ، يَا مَنْ يُعْطِي مَنْ سَأَلَهُ، يَا مَنْ يُعْطِي مَنْ لَمْ يَسْأَلْهُ وَمَنْ لَمْ يَعْرِفْهُ]، فهذه الفقرات الدعائية، بمقدار ما ندعوا بها تعالى اعترافاً بفضله وكرمه، واستنزالاً لعطائه، هي أيضاً عبارات تبيانية تربوية لمن يُريد أن يَعمل بالحديث القائل: "تخلقوا بأخلاق الله"، ولأجل التحلي بهذا المستوى من العطاء، كلاً بمقدار سعته وطاقته.
وهي توجب على من يُعطي غيره، أن يَسأل نفسه هذه الأسئلة: تُرى هل ما يُقدمه لأجلهم هم أم لأجل الله تعالى، عبوديته لِمَن؟ جزاؤه الذي يُريده مِمَن؟ عندئذ سيلحظ كيف إن للعطاء بالنظرة الإلهية مقاييس أخرى، والمقاصد والثمار التي سيحصدها تكون مختلفة وأحلى، بالنتيجة تنتفي عنده قاعدة التساوي بالتعاملات، لتحل محلها قاعدة السبق والتسابق نحو خدمة الخلق لأجل التقرب من الخالق.
وقد يتصور البعض إن ذلك قد يُعطي فرصة للآخرين لاستغلالهم؟ ابداً، بل العكس، هم بذلك يستثمرون وجود الغير في حياتهم للارتقاء بسلم التكامل، ولإظهار وتنمية جانب الخير المكنون فيهم، إذ إن تربية النفس على الإنفاق والبذل دون انتظار مقابل أو أن يطلب ممن يُحسن إليه إحسان بالمثل، هو صعب ويحتاج لمجاهدة ومصابرة مع النفس.
تلك المجاهدة التي ستوصله لمقام الأبرار، إذ قال تعالى: {لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا ۖ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ ۗ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ}(البقرة:١٧٧).
فالمسألة ليست قصدية قلبية فقط، بل هي قصدية وعملية، هي بذل وعطاء معنوي ومادي، فمضامين الآية تتحدث عن العطاء بتكرار مفردة (وَآتَى)، لمن لا يُرتجى منهم جزاء ولا ثناء؛ وليكون مِمَن وصفهم الإمام الكاظم (عليه السلام) بقوله: [إن لله عباداً في الأرض يسعون في حوائج الناس، هم الآمنون يوم القيامة](١).
لذا من الجيد أن نسعى ونكون بهذه الهمّة عبر هذه البوابة للدخول في هذا الصنف من عباد الله، ولو على مستوى تعاملنا مع فرد واحد في حياتنا نعطيه وفق المقياس الإلهي لا البشري.
وكلما توسعت دائر الأفراد الذين نتعامل معهم وفق ذلك، وفقنا أكثر لتهذيب وتربية هذه النفس، لتُصبح أقرب لنفوس عباد الله الأبرار، ومن أهل التجارة التي لا تبور أبداً، تلك التي ليس فيها احتمال خسارة أو نقص في الأرباح، بل كلها أنوار في النفس وثمار مضاعفة وأجر.
اضافةتعليق
التعليقات