منذ الصغر تعودنا أن نترك بقايا الأشياء خلفنا، قطعة البسكويت المكسورة في قدح الحليب، أقلام الرصاص القزمة التي لم تعد صالحة للكتابة، وبضعة وريقات من رواية بوليسية لم تنل إعجابنا..
ثم كبرنا، وأصبحنا نترك بقايا آلامنا وأفراحنا في نفوس الآخرين، ففرصة الحصول على وظيفة براتب جيد باتت جديرة بأن تعكس بهجتك على بائع السجائر في الشارع وأنت تعطيه ورقة نقدية ولا تسترجع منه الباقي.
ومشكلة مع مدير العمل جديرة بأن تجعلك تدخل إلى المنزل بحاجبين معقودتين وتنكث غبار عصبيتك على زوجتك المسكينة لأي سبب تافه يواجهك معها.
إنها بقايا مشاعرك أو المخلفات التي تقذفها على الناس دونما تشعر.. أحيانا يكون انعكاسها إيجابيا على الآخرين فيبدر منك على أثر سعادتك كلمة طيبة لبائع الخبز مثل (الله يساعدك ويقويك اخويه الغالي) أو مساعدة لكبير في السن وهو يعبر الشارع أو حتى ابتسامة هادئة لعابر طريق لا تعرفه.
فتنتقل عدوى السعادة منك إليهم بلا شروط ولا تقييد، فيضاف إلى تفاصيل يومهم موقف جميل وايجابي، ولكن في النهاية هي ليست إلاّ بقايا سعادتك التي تركتها في غيرك.
وفي الوقت ذاته من الممكن أن يحدث العكس، فتنقل لغيرك عدوى الحزن وتلوث يومهم بموقف سيء وكلمات جارحة، فيكون انعكاسها سلبيا على غيرك، ويكون أثر تعاستك كلمة جارحة ترميها على سائق التكسي وهو يمر من أمام سيارتك دون أن تنتبه له، أو صرخة بوجه طفل نسي أن يضع ألعابه في مكانها بعد الانتهاء من اللعب، أو تنشر البؤس لكل من يقابلك في الشارع بوجهك العبوس القمطرير، وبدل أن تشكر بائع الخبز لأنه يقف أمام التنور في حر الصيف الشديد تقول له بنبرة ثخينة (صمونك معجن!).
هي مجرد بقايا في داخلك لم تجد الاحتفاظ بها لنفسك، أو على الأقل الاحتفاظ بالتي ستترك أثرا سيئا على غيرك وستشوه يومه، فإذا لم يكن في وسعك أن تكون إضافة جيدة ليوم غيرك لا تكن منغصا عليه..
أن يراقب الانسان نفسه ويحافظ على جأشه هو عين ما وصانا به الدين، فمشاكلنا الخاصة وأحزاننا هي تخصنا نحن، ولا علاقة للناس بما يواجهنا في معترك الحياة، نحن من نتحمل مسؤولية أحزاننا، لا الأم ولا الزوجة ولا حتى الأطفال ولا أي شخص في هذا العالم يستحق أن نرمي عليه غبار تعاستنا..
ما ذنب تلك الزوجة التي تعمل في البيت من الصباح وتربي الأطفال وتهتم بأمور البيت التي لا نهاية لها حتى تواجه زوجا يدخل إلى البيت بمزاج ملتهب وعينان تقدح نارا؟ فالرجل الذي يواجه يوما صعبا خارج المنزل يترك مشاكل عمله خلف الباب ويدخل إلى البيت بوجه سمح وأحضان مفتوحة.
وكذلك المرأة التي تواجه مشاكل مع زوجها ما ذنب أطفالها حتى تفرغ كبتها العاطفي في وجوه بريئة لا تعرف معنى كلمة الحياة بعد؟
إنها دائرة من العلاقات التي لو بدأت لن تنتهي وانعكاسها وتأثيرها تستمر من العائلة إلى الأصدقاء إلى الجيران ليصل حتى إلى الغرباء..
فلو عمل كل فرد وفق مفهوم (ما خلف الباب يبقى خلف الباب) لعرفنا كيف نتحكم بسراج مزاجنا وضبطنا تصرفاتنا وفق الأنغام التي ترضي الله، ولوضعنا حداً لإنتقال البؤس في العالم.
اضافةتعليق
التعليقات