يوم بعد يوم نمضي، الساعاتُ تتراكض؛ لتُنهي الأيام، والأيامُ تتسارع؛ لتُنهي السنين، فتنتظر حصادك ولا تجد غير صحراء جافاها مطرها.
نمضي ولا نعلم، كيف السبيل للوصول، وأي وصول نريده، أنلحق بالركب، في طريق قدّم وعورته، وفيه ما تستصعب النفس اجتيازه، فكم منْ قوةٍ وصبر نحتاجُ لنمضي قُدماً دون تهاون وضعف.
مضتْ هذه الحُرة الأبية بطريقها منذ أن نشأت وخرجت لهذه الحياة المتعبة.
امتازت بعُمق معرفتها وقُربها من الحقيقة بتأملاتها بالكون، وسمو روحها عن براثن الجهل.
عقلية ارتفعت، وحلّقت بسماءِ المعرفة، واليقين، فتسامت عن مجتمع جاهلي؛ لا يعي من أموره سوى الماديات..
عالمٌ يجر بمن يستهويه نحو الحضيض، عالمٌ لا يعي إلا الأشياء، متغافل وبعيد عن عالم الفكر والروح..
هذه المرأة المُستنيرة الموفقة بشخصيتها العظيمة ابتعدت كل البعد عن عالم يعجُ بالماديات، وسكنت بعالم الفكر والروح. هذا العالم الذي أوصلها لأعالي السماء التي قلّ من يصلها.
ثلاث عوالم أمام الفرد ولكن أيُ عالم سيختار العيش والارتقاء به، عالم الماديات، أم عالم الأفكار، أم عالم الروح والقيم..
وبما أن أغلب الناس ركنوا لعالم الماديات، جعلوا من حياتهم جحيماً تحفه المصائب والصعاب، وأثروا حتى على من لم يروقه هذا العالم فتسببوا بالألم والأذى..
ففي هذا العالم تكثر الويلات حيث يسود الظلم والأنانية، والغدر والحقد، والكذب، والخيانة، وسلب الحقوق، وحب الذات، والغش والخداع، وغيره..
إذ يتربص المرء بأخيه سوءًا ليظفر بترقية أو مقابل مادي، أو يقتل أحدهما الآخر من أجل مال أو خلاف دنيوي يُوصلهم للاستهانة بالروح وازهاقها، أو ذكر أحدهم الآخر بسوء ليكون هو الأفضل فيحصل على مديح أو غيره..
ماذا عن المُشردين في الشوارع، بلا مأوى، الأطفال الذين سُلبوا أبسط حقوقهم من علمٍ وحياة مستقرة ألا يعود ذلك كله للعالم النفعي المادي..
أما حبُ التعالي والتسلط فذلك المرض الذي فتك بالنفوس.. بينما سبحانه المهيمن على الكون كله بيّن لهم أن لا سلطان لغيره وأن كل ما في الكون سيفنى بلحظة، ويزول، وأنه سبحانه أرسل لهم أفضل خلقه الذين ميزهم واختارهم لينتشلوهم مما هم فيه وقد امتازوا جميعاً بعدم الكِبر وارتقت نفوسهم عن عالم لا يُسمن ولا يغني من جوع فكل الأمر بيد مدبر الأمر..
لو عاد المرء لبارئِه متيقناً مطمئنًا مسلماً لما حمل هَمَ أمرٍ من أمور دنياه، وذلك يحتاج قوة كبيرة لم يمتلكها إلا القليل وذلك مما تميزت به أم البنين عليها السلام التي آثرت وأخلصت، وأيقنت بعدله وحكمته تعالى..
عاشت بعالمٍ يتسامى بالقيم والفكر المُوصل للعُلى، بذلتْ كل ما عندها ولم تفكر ببقاءٍ لدنيا لأنها تيقنت من زوالها وارتبطت بالعالم الأسمى فأعطتْ، وقدمت من أجل نصرة الحق، فالمرء باق بأثره يُخلده عمله وفكره الناصع وإخلاصه لوجه الحق..
فالإنسان إنما يرقى بروحه وفكره، لا بجسده ومتى ما انطلق بعالم الفكر، عالم القيم، الروح السامية، لم يَحده عالم الجسد، عالم الزوال.
ومهما بلغت قوة الإنسان سيبقى في نفس الوقت ضعيف فإن كان اهتمامه بالمادة، سيرحل برحيلها إن كانت صحة وقوة الجسد أم مال وقصور..
أما لو كانت قوته بفكره ومبدئه وقيمه، فسيُخلده هذا الفكر ويبقى أثره وتأثيره في النفوس..
فخلدت أم البنين عليها السلام بمعرفتها العالية وإخلاصها وإيثارها على نفسها إذ قدمت حتى أولادها لنصرة الحق لرضا الإله سبحانه وهي مستبشرة مطمئنة لرضا الإله الذي إليه تنتهي الغايات.
اضافةتعليق
التعليقات