الذي واكب على معرفة سيرة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته الكرام في القرآن الكريم والأرث الكبير من سيرتهم وأخبارهم التي تركها الأئمة الأطهار، يعرف موقف رسول الله (صلى الله عليه وآله) من ابنته الطاهرة فاطمة الزهراء (عليها السلام) فقد تواترت الروايات في ذكر منزلة الزهراء (عليها السلام) عند الرسول, ومنها قوله (صلى الله عليه وآله): ((إِنَّمَا فَاطِمَةُ بَضْعَةٌ مِنِّي، فَمَنْ أَغْضَبَهَا أَغْضَبَنِي))([1]).
وسوف يسهل عليك أن تدرك علاقة السيدة فاطمة الزهراء بأبيها الرسول (صلى الله عليه وآله) ومحبتها إياه لم تكن بدافع الأبوة والنبوة فقط، بل كانت السيدة فاطمة تعتبره أباًعطوفاً، ووالداً رؤوفاً، رحيماً، وفي الوقت نفسه تعتبره رسول الله، وسيد الأنبياء والمرسلين، فهي تحترم أباها كما تحترم المرأة المسلمة العارفة نبيّها، وتعظّمه أقصى أنواع التعظيم، وأعلى درجات التفخيم والتجليل. وإنما نطرح في هذا المقال جزء يسير ومختصر لحياتها بعد وفاة الرسول (ص).
السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) أعلم امرأة في الإسلام، وأعرف أنثى بعظمة نبي الإسلام. فلم يكن بكاءها وحزنها على رسول الله جزعاً واعتراضاً على فقده فهي منزهة عن ذلك الفعل، وهي تعلم أن مقره الجنان عند مليكٍ مقتدر. فبعد ثقل المرض على رسول الله (ص)، فتحت له أبواب السماء، واقبلت عليه ملائكة الله، تبشره بلقاء ربه عز وجل، وما أعده له من الوسيلة والدرجة العظيمة والمقام المحمود. كان موته غصة كبيرة على الأمة الإسلامية وكان وقعه عليها لأشد ألماً.
عاشت الزهراء عليها السلام بعد وفاة النبي (ص) فترة قصيرة، قضتها بالنحيب والبكاء على فراق أكرم الخلق وما آل إليه وضع الأمة الأسلامية بعد وفاة نبيها محمد (ص) وكان أولها حادثة السقيفة بعد أن خرجوا عن وصية رسول الله في عدم تنصيب وصيه وابن عمه علي بن أبي طالب "عليه السلام" خليفة للمسلمين من بعده كما أمرهم الله ورسولهُ بعد أن تمت له البيعة في غدير خم أمام عدد غفير من المسلمين.
أما الثانية فهي اغتصاب حقها من ميراث النبي (ص) وبستان فدك الذي منحها إليها في حياته. ولكن مطالبتها بفدك لم تكن من أجل فدك، فهذه حياتها التي رضيت بها، واختارت عن علم وعمد أن تتجرع مرارتها من أجل حلاوة الآخرة وهي تعلم أنها أسرع أهل البيت لحاقاً لأبيها رسول الله (ص)! فأي قيمة لفدك؟!
إن غصة الصديقة الطاهرة عليها السلام لم تكن حباً في الأرث من المال أو الجاه فالتي قال الله عنها وعن أسرتها في كتابه: (ويُطعمون الطعام على حُبّهِ مِسكيناً ويتيماً وأسيراً، إنما نُطعمُكم لوجهِ اللهِ لانُريدُ منكم جزآءً ولا شكوراً). والتي تصوم مع أطفالها ثلاثة أيام وتمنع اللقمة عن فمهم فيطعمونها المسكين واليتيم والأسير لاتركض وراء مال الدنيا! إنما يتصور ذلك خفاف العقول وقد آن لهم أن يستيقظوا من نومهم ويفكروا ماذا جرى، ويعرفوا أي تاريخ محمل بالعار حرف مسيرة الأمة الإسلامية وأولها إلى هذه المهاوي التي وصلنا إليها اليوم.
إنما كانت مطالبة الزهراء عليها السلام بفدك إيقاظاً للأمة، لتثبت لهم أن هؤلاء الذين سيطروا على الحكم يأكلون الحق الواضح لبنت النبي (ص) ويمكرون، فماذا سيفعلون في حقوق الأمة غداً؟!
فالذي جلس في مكان النبي اليوم يدعي أن الأنبياء مستثنون من أحكام الشريعة وحتماً سيخلفهم حكام ظالمون يسفكون الدماء يتقاتلون على الكراسي ثم تنهار الأمة وتسير نحو الضلال والإنحراف! فكانت السيدة فاطمة ذات حنكة سياسية وعالمة غير معلمة تربت في بيت النبوة ومهبط الوحي.
كانت هذه غصة فاطمة (ع) وليست مزرعة فدك. وكانت وزوجها الوصي خير خلف لرسول الله (ص) وأشد الناس حرصاً على وحدة الإسلام لذلك خمدوا نار الفتنة خوفاً على وحدة الأمة وحفظ الدين.
قَال الإمام أمير المؤمنين عليه السلام: "كُنْ فِي الْفِتْنَةِ كَابْنِ اللَّبُونِ، لاَ ظَهْرٌ فَيُرْكَبَ، وَلاَ ضَرْعٌ فَيُحْلَبَ".
استشهاد فاطمة
قال الإمام الصادق عليه السلام: حزنت فاطمة عليها السلام حزنا شديدا أثر على صحتها. وروي أنها مازالت بعد أبيها معصبة الرأس، ناحلة الجسم، منهدة الركن، باكية العين، محترقة القلب يغشي عليها ساعة بعد ساعة. والمرّة الوحيدة التي ابتسمت فيها بعد رحيل أبيها (صلى الله عليه وآله) عندما نظرت إلى أسماء بنت عميس وهي على فراش الموت وبعد أن لبست ملابس الموت، فابتسمت ونظرت إلى نعشها الذي أمرت أسماء بصنعهِ لها قبل وفاتها وقالت: "سترتموني ستركم الله".
فقد ورد عن أسماء بنت عُميس أنّ فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قالت لها: “إنّي قد استقبحت ما يُصنع بالنساء أنّه يُطرح على المرأة الثوب فيصفها لمن رأى، فقالت أسماء: يا بنت رسول الله أنا أريك شيئاً رأيته بأرض الحبشة، فدعت بجريدة [سعف النخل] رطبة فحسّنتها ثم طرحت عليها ثوباً، فقالت فاطمة عليها السلام: “ما أحسن هذا وأجمله! لا تُعرف به المرأة من الرجل“(2).
ولم تكن السيدة فاطمة الزهراء (سلام الله عليها) تشكو من داء عضال غير ماحدث لها من أحداث مؤلمة بعد رحيل سيد الكونين (صلى الله عليه وآله). كل هذه الأمور ساهمت في تدهور صحتها وقعودها عن ممارسة أعمالها وكان زوجها العطوف أمير المؤمنين علي بن أبي طالب "عليه السلام"، هو الذي يتولى تمريضها، وتعينهُ على ذلك أسماء بن عميس.
وكان لبكائها أسباب ودوافع كثيرة، أهمها انحراف المسلمين عن الطريق المستقيم وانزلاقهم في مهاوٍ تؤدي إلى الإختلاف والفرقة وانهيار الأمة الإسلامية بالتدريج. فقد تحملت همّا ثقيلا فوق همّها وحزنها على النبيّ الأكرم (ص). ولاشك أن رحيل سيدة نساء العالمين سلام الله عليها، كانت في السنة الحادية عشرة من الهجرة النبوية الشريفة، لأن النبي (صلى الله عليه وآله) حج حجة الوداع في السنة العاشرة واستشهد في أوائل السنة الحادية عشرة، واتفق المؤرخون على أن السيدة فاطمة الزهراء (سلام الله عليها) عاشت بعد أبيها أقل من سنة، علما بأنها كانت في ريعان شبابها كما كانت في أتم الصحة في حياة أبيها. أوصت زوجها الإمام علي "عليه السلام" أن يغسلها ويكفنها ويقوم بدفنها سراً. وأوصت أسماء أن لا يدخل عليها أحد في تلك الليلة.
هکذا طوت سيدة النساء الزهراء فاطمة سلام "الله عليها" صفحة الحياة لتبدأ مرحلة الخلود في عالم الفردوس ولتحيا أبدا في ضمير التاريخ ودنيا الإسلام مثلا أعلی وقدوة حسنة شامخة تتطلع إليها الأنظار. حيث تسامت هذه المرأة العظيمة نحو معالي القيم والأخلاق، وذابت في الرسالة، وتحولت من مجرد شخص إلى نموذج رسالي بصبرها وحكمتها البالغة وكيف لا وهي ابنة خاتم الأنبياء والمرسلين وزوجة الوصي علي أمير المؤمنين وأم سيدا شباب أهل الجنة.
اضافةتعليق
التعليقات