كيمياءٌ تنتجُ من نقطةِ تقاطعٍ تجمعُ بين العاطفة والعقلانية، تتفاعلُ موادها المحسوسة والملموسة لتنتجَ مفهوم "الجمال"، مفهومٌ أشبه ما يكون بكفّةِ ميزان واحدة يستقرُّ عليها الوجود، ويبقى ثِقلُ التساؤلات مرتكزاً في المنتصف، يبثُّ روحاً للعقول الساكنة فيصيّرها عمّالا للمسألة، نتساءلُ منذ النشأة الأولى لنفتتح بالإجابةِ رحلةَ البحثِ، فلماذا تأصّل الجمالُ في تشكيلِ المخلوقات؟ وما هي بدايته ونهايته؟ هل هو سبيلنا أم نحن سبيله؟
تعشّق الإنسان منذ بداية خلقه بالميول إلى كل أنواعِ الجمال مادية كانت أم معنوية والتجاوب معها على حساب بقيّة الصفات، حتى أنها احتلت الموقع الأسبق بين إهتمامات الفلاسفة ما قبل الميلاد أمثال أفلاطون، أرسطو، كانط وهيغل وغيرهم من العلماء الذين دوّنوا فلسفة الجمال كُلٌّ على حسب اجتهاده، فتم تصنيفها على أنها إحدى الأركان الثلاثة للإصلاح (الحق، الخير، الجمال)(1) التي تنبع من وإلى الإنسان.
تناقلت الثقافات منطق الجمال على مر العصور حتى اختتمتها الثقافة الإسلامية بأروع الصور التي ترجمت لغز هذا المنطق ووضحت أصله ومبتغاه "الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ۖ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ" (2)، بداية من الهالة الجمالية التي أحاطت بكل المخلوقات والموجودات والتي حملت من التفاصيل الإعجازية الدقيقة ما قد يُذهِلُ الجمال نفسه، ونهايةً إلى الصفات الإلهية التي لا يمكن للعقول أن تتفكّر في جوهرها "وعجزت العقول عن إدراكِ كُنهِ جمالك"(3).
"إن الله جميل يحب الجمال"
هيَ هويّة كلِّ مسلمٍ مهما قلّت معرفتهُ الشرعية أو كثرت، ينطقها متى ما أرادَ قولبة عمل جمالي مُعيّن ينطبق على كيانهِ أو مُحيطه، ولكن هل تفكّرَ المسلم بماهيّة الجمال الذي يصف الله به نفسه في الوقت الذي يُصرّحُ فيهِ مولانا زين العابدين (ع) في مناجاة العارفين عن عجزِ الإنسان في إدراك كُنهِ جمالِ الباري عز وجل، ألا يجبُ أن يدركَ الإنسان غايةَ صفة جمال الإله ليستدل على الجمال المُحببّ له عزَّ وجلّ؟؟
مما ورد في معنى الكُنه عند اللُغويّين أنها الإشارة إلى الذات المُقدّسة بصورة مُجرّدة عن كًل التسميات الأخرى، وهو المعنى الذي أشار إليه مولانا زين العابدين (ع) في قوله: "وعجزت العقول عن إدراكِ كُنهِ جمالك"، ويقول الإمام الرضا (ع):" كنْهُهُ تَفْرِيقٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَلْقِهِ"(4)، فعند هذه المحطّة يجب أن يتوقف الإنسان في تفكّره وبحثه، ولكن قد يتساءل الإنسان أين يكمنُ موقعُ جمالِ الله الذي تُدركهُ العقول والذي يدعونا للتفكر به عز وجل؟
ينقل العلماء في حديث: "إنّ الله جميل.." إنَّ صفةَ الجمال تعود لوصف ألوهيَّة الله عز وجل وصوره في خَلقه، والذي يكون الإنسان الجزء الأعظم منها، نفساً وروحاً وبدناً وما تبعها من تفاصيل بديعة قد يُستدل بأصغر جزء منها إلى حيث العظمة اللامحدودة، يقول الإمام الصادق (ع) في رسالته للمُفضّل: "خَيْبَةً وَتَعْساً لِمُنْتَحِلِي الْفَلْسَفَةِ كَيْفَ عَمِيَتْ قُلُوبُهُمْ عَنْ هَذِهِ الْخِلْقَةِ الْعَجِيبَةِ حَتَّى أَنْكَرُوا التَّدْبِيرَ وَالْعَمْدَ فِيهَا" (5).
"يُحبُّ الجمال"
كل السٌبل تؤدي إلى الرب والجمال أوسعها سبيلاً، ولكن المُطلق دلالة على المُطلق والمقامات بينهما هي الفيصل، فإن كان الله يُمثّل الجمالَ المُطلق في الكونِ بكلِّ أشكالهِ فلابدًّ أن يكونَ الجمالُ الذي يحبُّهُ ويدعونا إلى حُبّهِ جمالاً مُتكافئاً بالنسبة لِمخلوق، أكبر عظمة من الكون والأسمى في دلالته إلى العظيم، نبحث مطولاً ونبلغ من العلم ما قد نبلغ وتبقى الحيرة مستقر العقول الغافلة، من أكمَلُنا جمالاً؟
قال تعالى: "إنما يُريدُ الله ليُذهب عنكم الرجس أهلَ البيت ويُطهّركم تطهيراً"(6) وفي قوله تعالى: ".... وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ " (7).
فالجمال حيثُ الطُهر ولا طُهر صادق إلا في عصمةٍ صادقة، حيث الدقّة في التكوين والمضمون والدلالة والإستدلال، "إن ذُكِرَ الخيرُ كُنتم أوّله.."(8).
فَتَجّملوا بمن أحبَّ اللهُ جمالهم وأسقطَ عليهم من جمالهِ، فالله جميلٌ... يُحبهم.
المصادر:
1, معجم المصطلحات الفلسفية، مراد وهبة
2, سورة السجدة، 7
3, مناجاة العارفين
4, التوحيد، 2/36
5, توحيد المفضل
6, سورة الأحزاب/33
7, البقرة، 222
8, زيارة الجامعة الكبيرة
اضافةتعليق
التعليقات