يدين مجعدتين، كم لمست أشياءً واشياء وكم قضت أيام حياتها مابين كدٍ وعيش، ها هي الآن تمسك كتاباً!.. ليتها كانت رغبة من الذات بل أمر من الإستشاري النفسي للتخلص من الإكتئاب بعد أن لم تفلح معه اغلب العلاجات المنشودة..
كان الكتاب هدية من أحد الاخيار، قد أخذ الغبار مأخذه منه منذ عشرة سنين بباحة مكتبته المهجورة!.
يتصفحه بإستحياء جرّاء هذا الهجر المتعمد، فصول متتابعة لشهداء خلدهم الزمان ومن ضمن الفصول واحداً مُعنون بــ وميض نور تفتتحه سيرة حياة رجل عظيم يُسمّى بــ (الشهيد الدالاني).
"عمار بن ابي سلامة بن عبد الله بن عمران بن راس بن دالان، ابو سلامة الدالاني، وبنو دالان بطن من همدان.
كان صحابياً جليلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله ومن أصحاب أمير المؤمنين علي عليه السلام وقد شهد معه معاركه الثلاثة (الجمل وصفين والنهروان) ومن انصار ابي عبدالله في واقعة الطف!.
كان صاحب وعي وبصيرة كبيرة وتوطّن في قلب المجتمع وفي اوج نفوذه الديني والإجتماعي ولم يكن من هوامشه وزواياه..
كان هو وقومه مضرب مثل في الشجاعة والنخوة، تميّزوا بالكرم وسائر المآثر الاخلاقية وشُيّد لهم مسجدا في الكوفة يُعرف بمسجد بني دالان وحدث ذلك بسبب مركزهم الإجتماعي آنذاك".
تسمّر حجي رضا بمكانه عقيب قراءة هذا المقطع، أغلق الكتاب ورجع سريعاً إلى خمسة عقود للوراء، حين كان عمره عشرون ربيعا، تجوّلت أمامه المشاهد المنصرمة من حياته كمتسوّلين سكارى...
مع من كان يمشي؟ مع من كان يقضي وافر وقته؟ على ماذا انفق معظم نقوده! بأي حال أنصرم ذلك الربع من حياته سريعاً كشهاب خاطف!.
تذكر.. تذكر بذاكرته المكتظة "أصدقاء الملذّات" كما كان ينعتهم. كانت تضمّ بجعبة صداقتهم امور كثيرة ومنها المُتع والتركيز عليها، تذكر تحديداً رحلة الثلاثين يوم إلى تلك الدولة الأوربية
والجُملة المعتادة التي كان هو وأصدقائه يرددونها بفخر متغابي (لم نصلي ولا فرضا واحدا خلال هذه الثلاثون يوما)!
ذبلت عيناه أكثر حين ومض ذلك المشهد بهما، ضمَّ الكتاب الى صدره ليخفف نزف قلبه الصامت ندماً وحسرة.. على ذاك الشباب المنصرم ببحر الملذات، على تلك العافية المتناثرة بغير مكانها المناسب وعلى الوقت الثمين الذي لم يقضي ربعه في ما يرضي الله والمجتمع!.
راحت تجول في باحة عقله تلك التساؤلات الملحّة عن هذا الشهيد، رجلٌ عاشر النبي وعاشر الأمير وشاركه بكل غزواته.. ثم كانت هدية الله له الشهادة بين يد الحسين عليه السلام وهو بهذا العمر وهو بهذا العمر! يا لها من عاقبة.
ولكن ماذا عني؟ من تصرّمت حياتي بأعماق الملذات والشهوات ماذا ستكون عاقبتي، بأي هيئة سأقضي نحبي، كيف سأموت؟ "ميتة إكتئاب" يالها من عاقبة مأساوية!.
قد ألتهم الإكتئاب كل خلايا كيانه، لم يتبقى من أوتاد حياته سوى ترّهل خفيف يحمل شُح أيامه القادمة...
عاد فتح الكتاب ثانية، يلتهب بداخله شغف إكتشاف الأبجديات المختبئة
خلف عاقبة هذا الشهيد الفاضل " كان عمار الدالاني صحابياً ذو رؤية و مبدأ وإدراك، سكن الكوفة وكان من اصحاب أميرالمؤمنين فيها و كما ذكر ذلك أغلب المؤرخين هو الذي سأل أمير المؤمنين عندما سار من ذي قار الى البصرة فقال:
يا أمير المؤمنين إذا قدمت إليهم ماذا تصنع!؟
فأجابه الامام: أدعوهم الى الله و طاعته، فأن أبوا قاتلتهم.
فقال أبو سلامة: إذن لن يغلبوا داعي الله.
وهذا يدّل على شدة حبه و ولائه للأمير، بل وكان يقدّم كل شيء لرضا الله و أهل البيت عليهم السلام.
كان يسقي روحه بغيث الصلوات والمناجاة والدعوات.. حتى آخر سنينه.
فكل شيء معرّض للذبول في هذه الحياة الا قلب المؤمن القوي، ينبُع فيه الأمل من الداخل يمدّه بالقوة والإزدهار الذي يخدم به دينه والمجتمع، وكيف ينطفأ القلب الذي تعلّق بالله وأرتبط به إرتباطاً محكما؟!
فكان عمار الدالاني من شهداء كربلاء الذين لم ينصاعوا لسوط الهَرم بل هم من هزموه بقوى
وتجلّد ليُخلّد ذكراهم على مر التاريخ دون إنحلال.
خرج إلى كربلاء خروج مُتلهفاً للنصرة والشهادة..
وفي الطريق من الكوفة جعل عبيدالله بن زياد زجر بن قيس الجعفي على مسلحة في خمسمائة فارس.. وأمره بأن يقيم بجسر الصراة، يمنع من يخرج من الكوفة لنصرة الحسين عليه السلام، وحين مرّ به عمار الدالاني قال له زجر: قد عرفت حيث تريد فأرجع!.
لكنه حمل عليه وعلى اصحابه كالصقر وهزمهم ولم يكن احد منهم يطمع في الدنو منه ومواجهة شجاعته..
كان موقفه هذا شبيه بمواقف عدة في نصرته لأمير المؤمنين علي.. فلأنه يحمل مستوى من الشجاعة العالية جداً بحيث لم يخشى في الله لومة لائم بل ما كان يرى أمامه إلا مجموعات صغيرة من الناس مع كثرتهم في سبيل نصرة الدين القيّم برغم سنين عمره.
وكأنه يعطي بهذه الهمّة درساً للشباب قبل الكهول، للنهوض بمكامن النفس البشرية التي لا تَهرم حتى بتقدّم العمر في زمن كسل فيه الشباب وخلدوا فيه للخمول والنوم فضلاً عن الكهول!
واخيراً بعد وعثاء الطريق وبعد مطبّات الشوق واللهفة وصل إلى أرض نينوى..".
عاود غلق الكتاب بل و وضعه بمكانه المهجور من المكتبة، حاول تفريغ ما قرأه للتو من ذهنه متأهبا لحظور ديوان الرجال الذي كان يرواده منذ زهوة شبابه.. لا زال اثنين من "أصدقاء الملذّات" يتواجدون هناك ولازال الحديث كالعادة مستمراً بالرغبات الوقتية ومن ضمنها المال وكيفية جني المزيد والمزيد منه والمؤسف بأنهم حتى الآن يخططون لصرفه بنفس السبيل.. الجميع يثرثر ويتفلسف ربما وهو صامت ومنزوي كجبل جليدي..
يفكر، كيف إستطاع الشهيد الدالاني صرف النظر عن الملذّات التي أحاطت بزوايا حياته كأسوار، كيف إستطاع التخلي عن نفوذه الإجتماعي حينها والإكرام بأغلى ما لديه في سبيل الله!.
أراد بعض اصدقائه المسنين غوايته برحلةِ مزاج جديدة، لكنه رفض بصمت بارد وعاد سريعاً لكُلبته الكئيبة علّه يتدارك الأمر وينفض الغبار الأسود عنها..
جلب ورقة وقلم وراح يدوّن الامور المتصلة بتميّز هذا الشهيد وحُسن عاقبته؛ ثلاثي محكم يحيط حياته كمهاد آمن يقيه التخبط ببحر الحياة وملذاتها وأولها تركيزه على المآثر الاخلاقية ثم التوطّن بها وهذا الامر كفيل لوقايته من أصحاب السوء في الخُلق والعاقبة.
والضلع الثاني من المثلث إستمرار ولائه وخالص حبه للنبي محمد صلى الله عليه وعلى عترته، فلم يكتفي بصحبة النبي ونُصرة الامام علي بل استمر بولائه وسخّر حياته بأكملها لرفع لواء الأسلام.
والضلع الثالث زُهده في الحياة رغم توفّر كل السبل المفتوحة للمعاصي فلم يغريه قوة الشباب لمعصية الله ولا كثرة المال ولا النفوذ والسلطة، نزع هذه الأردية عن روحه وأنطلق عاليا نحو السمو..
واما الشجاعة فكانت قلب هذا المثلث الثلاثي، فـ الله تعالى يحب المؤمن القوي كما ذكرت ذلك روايات اهل البيت وكان هو قد نال نصيبه الأعلى منها بالتركيز عليها وتنميتها في سبيل رضا الله.
حين أتمَّ تدوين النقاط، تسائل بقرارة نفسه بيأس مُصفّر و"لكن بماذا ستفيدني هذه الأمور الآن؟!
قد اكملتُ عقدي السابع للتو، رجل سبعيني ربما قد تعدى بوابة الشيخوخة الرمادية منذ أعوام، هل سيشفيني أمر آخر غير التوبة والندم..!
حاول التركيز على الضلع الثالث من مثلث الشهيد الدالاني، فإن كانتا السلطة والمال يتوفران فلماذا لا يسعى لخدمة الله والمجتمع من خلالهما؟!
قد إرتسمت امام عينيه صور الشباب المحروم بلا عمل ولا زواج ولا حياة ذات قيمة، نوى بقلبه أن يساهم بإرتقاء مستواهم المعيشي إلى الأفضل..
وأما ذنوبه التي احنت فقرات ظهره منذ الشباب عقد النية بمحوها من خلال الاستغفار..
وولائه لإبي عبدالله حاول أن يثبّته بزيارة وإن كانت عن بعد! توضأ، فَرَش سجادته الفيروزية وعطرّ ثيابه ومكانه ثم توجه للصلاة.
وبعد الإنتهاء.. وجّه قلبه ليمين القبلة ذاك المكان الذي تتوارى به البقعة الحسينية المشرّفة، قبل أن يبتدأ بقراءة الزيارة هَمّ لإحضار الكتاب ذاك وتكملة ما تبقى من حكاية الشهيد المخلص عمار الدالاني..
"عند وصوله لحبيبه الحسين جلس بين يديه كما يجلس الطفل بين يدي أبيه وكما يجلس التلميذ بين يدي معلّمه ودموع الشكر تفيض في مقلتيه..
إستعجل بأمر الشهادة بين يد الحسين عليه السلام، قاتلهم بأول حملة للعدو وحمل عليهم كحملة أسد مع أخوته وأحبّته من أنصار الحسين.. قدّم ما كان يملك في قلبه من شجاعة لمحبوبه دون خشية أو وحشة، دون تراجع او تردد وحمل معه إلى العالم الباقي وسام الشهادة والكرامة الأبدية".
تهاوت ادمع حجي رضا كقطرات مطر ثقيلة تحمل بطيّاتها الندم والحسرة من الخطايا والذنوب والشوق والحنين لأجنحة الروح، تلك التي تُحلق بذات الإنسان إلى سماء الإرتقاء..
وبحرارة ادمعه راح يهمهم؛ السلام عليك يا أبا عبدالله.. السلام على اصحابك الاوفياء، السلام على عمار بن ابي سلامة الهمداني...
اضافةتعليق
التعليقات