جالسة تتأرجح بين شجرتي تفاح كبيرتين تستمتع بالأجواء اللطيفة من حولها، تغمض عينيها وتسترخي متأملة، تداعب خصلات شعرها الطويل المنسدل نسمات هواء عليلة تحمل معها عبق الورد والرياحين تجعلها تشهق انفاسها من الأوكسجين النقي الزاكي لأطول فترة تستطيعها..
وهي تنتظر قدومه، تقوم وتروح تدندن وتجول ارجاء الحديقة الواسعة الخلابة بثوبها المخملي المطرز باللآلىء؛ وكلما تسارعت خطواتها الرشيقة الحذرة وهي تدور بين سرب من الطيور الجميلة التي تحط وتطير من حولها مستأنسة، يلتف وشاحها الأبيض الطويل بالأغصان المزهرة الخضراء المتدلية ما بين الاشجار؛ تسحبه برفق فتتطاير من بين طياته وريقات الزهور الصغيرة لتُنثَر فوقها وتَلِفُ حولها بفعل هبوب الرياح؛ تشعر وكأنها فراشة تطير بجناحيّ سعادة..
لم تبرح طويلًا حتى تسمع صوت حوافر الفرس وهي تقترب، لترفع بصرها صوبه ويترنم قلبها فرحًا لرؤية حبيبها قد عاد وهو يحمل لها صيدًا غانمًا بذل قصارى جهده ليصطاده ويأتي به لأميرته..
وصل اليها بعد برهة فركضت نحوه كالطفلة تستقبله بحفاوة وغبطة تملأ المكان بالبهجة والسرور، تنظر الى عينيه تلمعان عشقًا لرؤيتها فيُلقي عليها التحية وارق عبارات الحُب واجمل الكلام واعذبه، فتبادله ذلك وتستعد لمساعدته لإقامة حفلة شواء..
ثم يجلسان عند البحيرة الصغيرة تحت ظل شجرة التوت المعمرة لقضاء أروع الأوقات بالسمر
والحديث عن المستقبل الذي يرسمان خريطته بشغف يرافقه الدعاء والتمني بأن يبقيان زوجين متحابين مدى الحياة ويرزقهما الله بصبي وفتاة جميلين لتصبح لديهما عائلة صغيرة وسعيدة تقضي معظم أوقاتها بالسفر والاستمتاع بكل لحظات العمر سويًا..
وبعد ذلك يأخذ منهما التعب مأخذا كبيرا فيتجهان صوب قصرهما الصغير، يحملها عند الباب ليدلفا الى الداخل، وعلى بلاط مفروش بالورد واضواء الشموع الخافتة حيث يعُم المكان هدوء آسر وقد اضاف سطوع ضوء القمر من النافذة الزجاجية الكبيرة لمسة ساحرة حيث هبت الرياح فلاعبت الستائر وألسنة نيران الشموع اوشكت على الانطفاء، فيرتأي أن يجلسها على الكرسيّ
ويذهب ليُغلق النافذة بإحكام، وهو يُلقي على مسامعها ابيات شِعر من الغزل والمديح؛ ثم يعود نحوها وفور اقترابه منها أتت الصرخة مدوية بشكل مفزع!.
أُمي "أُمييي" انا اتحدث اليكِ ألا تسمعين!.
هيا انهضي لتُعدي لنا الطعام؛ عاد ابي ومحمد وسُمية ومريم، فقد اغلقت المَدرسَة هذا اليوم مبكرًا معلنةً نهاية العام الدراسيّ..
فور انتهاء صُراخ ذاك المشاكس الصغير عبد الله انتبهت الأم واستفاقت لتعود لواقعها وتنهض مصدومة وهي تنفض الغبار عن ثوبها الرّث الذي ترتديه خصيصًا لتنظيف باحة الدار المقفرة كل يوم، واشاحت بنظرها نحو الأرض الواسعة التي يسكنوها وهي تخلو من اي شجرة او زهرة تُذكر ما عدا كم نخلة متضررة!.
فصار زوجها النبيل أمام ناظريها وهو يُلقي السلام ويحمل بيده سمكة كبيرة لا زالت تتنفس، وكيسين احدهما مليء بالبطيخ والثاني قد خرجت منه باقات من الخضروات الزاهية، وهو يبتسم متعبًا وقد تلطخ وجهه وبعض اجزاء من ملابسه بدهان سيارته الصفراء المُتعَبَة!..
استقبلته هذه المرة بشكلٍ لطيف جدًا ومختلف أثار تساؤلاته ودهشته، وهي لا زالت تبدو مذهولة ومتعجبة فقد احدثت هذه الصرخة المفاجئة لديها ردة فعل غير متوقعة، فعندما اتتها على حين غرة انتشلتها من مشهد خيالها الورديّ الذي كانت تغرق فيه وتعيشه بكل حواسها منقطعة عن العالم الرمادي الذي تحياه واقعًا! ونزلت على قلبها اليائس العاجز كالصعقة الكهربائية وانعشته بكمٍ من الأمل والإرادة المفقودة!..
فرأت الحقيقة هذه المرة بلونها الورديّ فهي الآن متزوجة من حبيبها فعلًا وقد انجبت منه اربعة اطفال بدل طفلين!.
وهو يملك أرض واسعة ورثها عن ابيه وسيارة بدل الفرس! صحيح أن الارض مقفرة وخالية من الاشجار والزهور لكنها حتمًا سوف تخضّر وتُزهر فور الاعتناء بها وزراعتها وسقيها.. وصحيح أن السيارة التي يمتلكونها قديمة ومُتعبة ولكن لا بد ان يستبدلونها بسيارة حديثة وجديدة إن ارادوا وعملوا على ذلك!.
وراحت تُثير في سرها عدة تساؤلات منطقية وأفكار نيرة من شأنها تطوير هذه الحياة الشبه بائسة في نظرها سابقًا الى حياة رائعة تصنعها بنفسها مثلما تخيلت واكثر، وبقيت تتساءل وتردد قائلة: لما لا أُبادل لون حياتي في الواقع بألوان حياة الخيال؟!
فإن حقيقة الخيال رمادية الأصل لأنه وهم ونحن من نرسم صوره ونلونها داخل فكرنا!!
وأما الواقع فهو الحقيقة التي نحياها ونعيش تفاصيلها كل ثانية!.
ثم قالت في قرارة نفسها: بإستطاعتي استعارة ألوان الخيال وتركه رماديًا لعدم حقيقته، واجعل من واقعي ورديًا وكما أوَد أن يكون بخطوات يسيرة يجب عليّ تنفيذها، أولها الاتكال على الله وطلب التوفيق منه، ثم عليّ ببذل جهدي ومؤازرة زوجي الحبيب وحثه على المثابرة والعمل الجاد والمضاعف لتلوين حياتنا بما نشتهي بدلًا من التقاعس وندب الحظ الذي نعلق عليه فشلنا المفتعل على اساس سوءه! ونبقى ننتظر حدوث معجزة ما تضع بين ايدينا مصباح سحري يحقق احلامنا!.
تلك الاحلام التي ربما صار وتحققت فعلًا ولكن بشكل مختلف ونحن من لا نراها لرماديتها
وعدم ادراكنا لحدوثها وربما لأننا لم نتقبلها على هذا النحو ولم نحاول تلوينها لنكتشف بأن اغلب ما نحياه هو جزء من احلامنا ذاتها؛ وكل ما في الأمر أنها تحققت بصيغة مختلفة قليلًا عما كنا نتصوره في خيالنا وربما كان للتغيّر فيها أمر من الله هو مدبره لنا عن حكمة ودراية بصالحنا اكثر منا، سبحانه اللطيف الخبير.
إن الإنسان الواعي والعاقل يتوجب عليه التفكر طويلًا والنظر الى ما قسمه الله تعالى لهُ من يسير ويحمده عليه ويعمل على تحسين مستوى معيشته بقدر ما يحتاج، ويبدع في تلوين ايامه بالقناعة والرضا وشكر الرب على ما وهبه اياه من نِعَم، كما عليه مساندة الشريك وتقديم الحُب والتعامل بالرفق والطيب مع المحيطين به، بدل جلوسه مكتوف الأيدي متمنيًا بلا عمل ومنزعجًا بلا أمل! لايفقه سوى اطلاق العنان لتصور حياة ينشدها في عالم الخيال فقط؛ ويجلس حزينًا مرتديًا ثوب الخيبة والحسرة من دون مبرر!.
اضافةتعليق
التعليقات