كان النسيم القادم من السفوح الجبلية يدغدغ وجناته ماراً بكل مساماته المتراصة ومعانيه الطفولية, بدءاً بخصلات شعره الشقراء المتناثرة على جبينه العريض المشرف على عينيه البنيتين، وأنفه المدبب الصغير المحشور بلطافة هندسية في محياه البرئ الذي بدأ يأخذ قالباً يافعاً وهو يتقافز فوق جداول العمر وقد أحصى منه إثنا عشر عاماً.
كان قيس جالساً قرب الدار يراقب عن بعد دجاجته وهي تتقدم موكب فراخها، لا تكف من التقاط الحبوب المتناثرة هنا وهناك، داعية إياهم لتكرار العملية، من يا ترى علمها الاهتمام بصغارها بهذه الدقة؟! فكرة راودته وخطفت ثوان من انتباهه قبل أن تتطاير مسرعة وهو يسمع أصوات الفرح والسرور المتعالية مبشرة بولادة أخته الصغيرة.
أخذ يتقافز مبتهجاً، دخل الدار مهرولاً ماراً بالدهليز الطويل المؤدي في نهايته إلى الغرفة التي تعلو الأرض بدرجتين، ليجد أمه في حال يرثى لها، بينما تحمل أيادي القابلات المولودة الجديدة، وقد عمت في الأجواء نشوة الفرح بعد هذه الولادة المتعسرة.
كانت أخته ناعمة جداً وصغيرة، حتى أن إصبعاً واحداً منه يكفي ليحشر في كل كفها؛ غريبة هذه المخلوقة الضعيفة القادمة من عالم آخر، والتي حازت على اهتمام والدته المنكفئة على رضاعتها ليل نهار.
مضت الأيام وهو يراقبها تكبر كلما شربت من ذلك السائل السحري.
سمع يوماً على سبيل الصدفة إحدى النساء توصي أمه بشرب الكثير من الماء فإنه يدر اللبن بغزارة نظراً لحرارة الشمس وضراوتها في النهار.
لم تكن حال القبيلة بهيجة كما في دارهم؛ فقد أخذت نواقيس الحرب والحصار، تضج مضاجع الرجال الذين لا يكفون عن التداول في أمورها.
راح أحدهم يتكلم بصوت جهوري عال وخطوط الاستنكار تخط حنايا جبينه:
لا يمكن هذا! إذا قطع المسلمون خارج الحصون موارد الماء سنهلك جميعا لا محالة، سيذبل الزرع خلال أيام وتجف الجرار بعد ساعات.
قال آخر منبرياً:
لنخرج مهاجمين قبل حلول الكارثة فهذا هو الموت بعينه!
استأنف شاب بدت عليه مظاهر المعرفة:
لماذا لا نبني مخازن للمياه؟ سوف تكفي لحين حفر آبار جديدة لربما داخل القلاع وهكذا نتدارك الموقف.
صاح من نهاية المجلس أحدهم معترضاً:
غير معقول! ليس لدينا الوقت الكافي.
بدا هياج أصواتهم بمثابة نعي جنائزي متعال، اخترق كل وجوده، وهو يتمخض في مناقشات
ومجادلات لا تعرف النهاية. تقوقع في ذاته مكتئباً يعتصره الألم.
أول ما راح يفكر به اللبن الذي لا يدر من صدر أمه إلا بالماء، تنهد عميقاً ثم توجه نحو الجرة القابعة في زاوية الدار وحركها؛ تلاعب الماء في قعرها مصدراً أنيناً مجهولاً أصابه بقشعريرة مزعجة، حملها و توجه نحو النهر ليملأها ويعيدها مكانها كما كانت، ثم راح يرنو بنظرة إلى الدجاجة المحتشدة مع فراخها حول القدح تعلمهم رشف قطرات الماء.
مر أسبوع وحالة الاستنفار طاغية في جنبات الحصن.
أخذت الأحداث المرة تفسد بهجة الحياة، لم يعد قيس يشاهد البسمات على وجوه المارة المتسكعين في الأزقة كما إعتادها فقد حل الوجوم مكانها بترقب مميت.
كل شيء كان يبدو خائفاً من سياسة الحرب ومكر القادة ودهائهم.
رزحت خيبر في بهت تام شل قواها وهي تتوجس خيفة المصير المجهول.
في الصباح، انقشع الليل بظلامه الدامس، لتتوج الشمس جبين السماء، مشرقة مفعمة بالحيوية والنشاط ، تبعث بأشعتها نحو الكروم والمزارع.
كان ذلك اليوم غير الأيام؛ بدت فيه الورود فواحة والعصافير صاخبة أكثر من ذي قبل.
تراكض الرسول في طرقات القرية وهو ينادي بلهجة توحي بالجذل والسعادة:
أيها الناس!
أيها الناس!
لن يقطع الماء!
منع رسولهم محمد قطع موارد الماء!
أيها الناس!
انقشعت غمامة الهم لما علت الزغارد في كل مكان، وطفحت تباريح الأمل تحوم في أجواء القلاع الخيبرية التي بدت عملاقة لا تقهر، بعد أن قضت الليالي ساهرة وهي تنتظر قرار الرسول (ص)، الذي خط شموخ الإنسانية مستهزئاً بحمى وطيس الحرب.
توجه قيس راكضاً نحو القربة وحملها ليملأ قدح الدجاج الذي شارف على الانتهاء، بعد أن رمى شبه نظرة نحو أمه التي كانت تجتر دموعها، وهي تناغي طفلتها اللامبالية بتطور الأحداث.
بحار الأنوار : ج٢١ص٣٠ - ٣١ ب ٢٢ ح٣٢.
اضافةتعليق
التعليقات