لم يكن ميزان الوجود اللدني لولا وجود فاطمة، فعرش الرب الجليل، يهتز غضباً لغضبها، ويستقر رضاً لرضاها، علَّمها ربها أسرار الخلق وجميع العلوم والمعارف، خلقها من خاصة خلقه، الذي اصطفاه لنفسه، حبيبه وخليله وخاتم أنبياءه، ميزها بزوجها البطل الغالب، والإمام الأول المفترض الطاعة، وحباها الله بسلالة الأئمة التي تكون من ذريتها، عصمها الله من السهو والخطأ والزلل، وأعطاها فصاحة وبلاغة ومعارف الأولين والآخرين، لم يكن هذا فحسب فهي عالمة بالتأويل والتنزيل، وترد على الحجج والأقاويل، فصيحة اللسان، كريمة الخلائق، معطية متفانية.
وقت الحدث
وبعد وفاة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، وفي يوم من الأيام كانت السيدة فاطمة الزهراء سلام الله عليها ذات الثمان عشر ربيعاً تحمل برعماً صغيراً مقدساً في أحشائها، في يوم بائس دخل عليها أبالسة بهيئة بشر، دفعوا الباب بقوة، وأحرقوا الجدران وعصروا الطاهرة الطُهرة بكل قوة، وصفعوها بسطره، وتناثر دمها الزاكي، وسقط الملاك الصغير، محلقاً بروحه إلى السماء، ولسان حاله يقول أنا سابق لكِ أمي الزهراء، ذاهباً لأبيكِ أشكي له ما صنعوا فيكِ، فهيا نُعّجِل في الرحيل، هذه الدنيا ليس لنا فيها وجود، الحقيني لنذهب منها ولا نعود، من خان وصية الرسول بإبنته البتول كيف تأمنيهم، اقبليي يا أُماه وأنتِ غاضبة عليهم، ظنوا أن الإرث من بعدكِ يرثُ لهم الثراء، ولا يعلمون انهم أسسوا في هذه الدنيا أساس البغاء.
مكان الجريمة
تجرأ شرذمة من الذين يدعون أنهم من أتباع نبي الأمة، على الهجوم على أم أبيها، وهي في عقر دارها، ومن المفترض أن الإنسان يكون آمناً على نفسه في داره، لكن كل شيء يمشي عكس عقرب الساعة، ومع من؟ مع سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين، والسبب أنها لم تبايع خليفتهم الأول ولم ترضَ أن تعطيهم ارثها الذي ورثته من أبيها صلى الله عليه وآله وسلم بحجة أن النبي لا يوّرِث واستندوا بإدعائهم أن النبي صلى الله عليه وآله قال: (نحن معاشر الأنبياء لا نوّرِث) كيف هكذا وإن الله تعالى يقول {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ ۖ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ۖ إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ} النمل ١٦ وكذلك قوله تعالى {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَىٰ وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ} غافر٥٣، ثم إنه لا يخفى أن كتاب الله لا يُعلى عليه ولم يلثم بالتغيير ولو بحرف واحد، أما السنّة النبويّة تأتي في المرتبة الثانية ولا ننسى أنها خضعت للتغيير والتحريف، لذلك نعرض السنّة على كتاب الله العزيز، فما وافق منها كتاب الله قبلناه وعملنا به، وما خالف كتاب الله تركناه ولم نقيم له وزناً.
عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: "إذا جاءكم حديث عنّي فاعرضوه على كتاب الله، فما وافق كتاب الله فاعملوا به، وما خالف كتاب الله فاضربوا به عرض الجدار")، وقد قال الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) عدّة مرّات: "ما لم يوافق من الحديث القرآن فهو زخرف"، وقال في أصول الكافي بأنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) خطب الناس بمنى فقال: "أيّها الناس، ما جاءكم عنّي يوافق كتاب الله فأنا قلته، وما جاءكم عنّي يخالف كتاب الله فلم أقله"، فالحديث يجب ان ويعرض على الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، بهذا الميزان العادل يتوضح لنا أن حديث (نحن معاشر الانبياء لا نورث) هو حديث لا أصل له، وقد لُفِق على النبي الأكرم صلى (الله عليه وآله وسلم) لأنه لا ينطبق على كتاب الله، فيضرب به عرض الجدار.
أما من ناحية البيعة ففاطمة الزهراء (عليها السلام) مكلفة ببيعة زوجها أأمير المؤمنين لأنه الإمام مفترض الطاعة من قبل الله تعالى على لسان جبرائيل انزله على صدر النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) في حجة الوداع وقرن بيعة الإمام علي (عليه السلام) بالرسالة فإن لم يبلغ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الناس بالبيعة لعلي من بعده كأنما لم يبلغ رسالته كلها، قال تعالى {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ۖ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ۚ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} المائدة ٦٧.
آثار الجريمة
فُتِحَ محضر الجريمة بشهود كُثر، من ضمنهم فضة خادمة البضعة (المجني عليها)، وولداها الحسنان وبنتها زينب ذات الثلاث أعوام، شاهدوا بأعينهم دماء تسيل فاضت بها أروقة المنزل، وضلع هزيل كُسِر بالمنجل، وجدران ملطخة بذرات اللحم، وباب محروق مخلوع، وطفل شهيد صريع، ألقى حتفه قبل أن يشم الهواء من نافذة الحياة، كان كل شيء في الدار يجهش بالبكاء والعويل، وصية المختار قد اهتك دارها في واضح النهار، يا لها من مأساة اهتز لها عرش السماوات.
غضب المجني عليها على الجناة
وبعد ثلاثة أيام من الحادثة التي ضجت لها ملائكة السماء بالبكاء، أوصت فاطمة الزهراء سلام الله عليها زوجها علي بن أبي طالب ببعض الوصايا التي لا تخطر على البال، قالت له أنا قد قربت منيتي، وسأحلق لبارئي وأنا مخضبة بدمي، من قبل الذين يزعمون أنهم أصحاب أبي، فأنا بريئة منهم يا ابن عمِ، أنا طاهرة مطهرة فغسلني فوق ثوبي، وفي حلكة الليل ادفني، ولا أريد أحدا منهم يعلم أين قبري، اخفي عليهم كل معالمي، وانتظر ماذا سيفعل بهم ربي، واودعك لألتقي بك بخير من هذه الدنيا يا بعلي.
وإن تسألوني من هي فاطمة؟
فأقول: لا أعلم ما كنهها أو كينونتها، ولا أدري ما هي وما هيتها، هي الكوثر بقدسيتها، قد سماها الله بأبجدية منظمة، مستترة بسريتها، مقدسة بشخصيتها، مبجلة بعفويتها، وأستبيحكم عذرا لأن أبجديتي لا تعينني على أن أصف فاطمة.
اضافةتعليق
التعليقات