يعتبر النقد الأدبي من أعمدة الأعمال الأدبية التي تقف عليها المادة السردية أو الشعرية، فالنقد يجمع بين حروف الكاتب وهيمنة الفكرة وبين ذوق الناقد وفكره وتجربته الرصينة، فينقب عن جمال الفكرة كما ينقب الصائغ عن الذهب، ويُظهر أماكن القبح او الضعف في الجملة او الفكرة، وما أحوجنا اليوم الى هذه الأعمدة الأدبية، لاسيما أننا أصبحنا نكتفي بالمجاملات، ونصمت عن الضعف في النص الأدبي خوفا من خسارة من نحب، وإن كان هذا الأمر قد يؤذي الكاتب ويجعله يراوح في مكانه من دون أي تقدم او تصحيح.
فلا يوجد احد منا يرغب في سماع ما يضره وإن كان يصب في مصلحته، ولكن النقد والأدب لا يمكن أن يتجزأ، فكلاهما يكمل الآخر، لذا عرف النقد أنه قديم الظهور حتى قيل لولا النقد لما كان للأدب قواعد وأسس تُطبَّق عليه ليخرج بحلة إبداعية متميزة.
ويدخل النقد في جميع أنواع الأدب سواء كانت شعرية او نثرية، ويتخصص فيها محاولاً أن يكون النص كاملا من حيث اللغة والفكرة والتجانس بينهما، ثم يصدر الحكم الصائب في حقه. إن اختلفت مراجع النقد فتبقى وجهات النظر والذوق هو المرجع الأول في الحكم على النص، فهناك كاتب مصقول الموهبة قوي الفكرة، وهناك كاتب مبتدئ حروفه مازالت بسيطة ويستهوي الفكرة، فهذا أيضا يؤثر على نوع النقد، فالناقد الخبير والمرهف هو من يعرف عمر النص من السطور الأولى.
ومن النقاد المعروفين بذائقته النقدية، الكاتب والروائي القدير علي حسين عبيد الذي نقل لنا في حوار خاص تجربته مع النقد، وما هي الشروط التي ينبغي أن تتوفر بالناقد؟.
وأجاب الأديب علي حسين عبيد: عندما دخلتُ عالم الأدب، بدأت شاعرا، أتذكّر أن أول بيت شعري عمودي كتبتهُ وأنا في الخامس الابتدائي وعرضته (متوجّساً) على أحد أقربائي يكبرني بخمس سنوات، فكانت المفاجأة لي بأنه أثنى على البيت الشعري الذي كتبته، وشجعني كثيرا، وبالفعل كانت تلك اللحظة تمثل دخولي الأول في عالم الشعر والأدب عموما، فواصلت البحث عن الدواوين الشعرية وقرأتُ كل ما يقع بين يديّ من شعر للجواهري بخاصة والسياب والشريف الرضي وصفي الدين الحلي وغيرهم الكثير.
ثم بدأت أحاكي بعض قصائد الجواهري وأكتب بعض الأبيات العمودية وأرسلها الى المجلات الأدبية والفنية، فقد نشرت لي مجلة (المجالس الكويتية) الكثير من قصائدي القصيرة، ولكن كان النشر يتم في صفحة (القراء) وليس في صفحة الأدباء الراسخين، وأذكر أن الجواهري نشر قصيدةً شغلت الوسط الأدبي العراقي يقول في مطلعها:
أزِحْ عن صدركَ الزبدا...... ودعْهُ يبثُّ ما وجدا
وخلّي حطام موجدةً........ تقيء الحقد والحسدا.
وتمتد هذه القصيد البارعة الى ما يقترب من ثمانين بيتا، وقد أحدثت عاصفة من ردود الأفعال، وأعجبتني كثيرا، وتأثرتُ بها فقمتُ بمحاكاتها بقصيدة قريبة أقول في مطلعها:
أفق لا ترتمِ ثملا....... وقلْ لن أرتدي الخللا.
وقمتُ بالفعل بإرسالها الى مجلة المجالس المصورة الكويتية وتم نشرها في صفحة القراء.
بعد ذلك قرأت روايات متنوعة وانتقلتُ من عالم الشعر الى عالم السرد (القصة والرواية)، لأنني وجدتُ أن القصة عالماً أوسع للتعبير عمّا أريد، فهجرتُ الشعر بصورة كليّة الى عالم أكثر سعة وحرية ليس فيه (وزن شعري، ولا قافية، ولا أية ضوابط سوى الفن القصصي)، وبدأت أكتب القصة وأمزّق الورق وأشطب وأصحح، وأرسلت أكثر من قصة للنشر تم رفضها، الى أن كتبتُ قصتي (الحلم) التي أخذت مني وقتا طويلا مع التصحيح والشطب والتغيير، وعندما اكتملت، وضعتها في مظروف ورقي وأرسلتها بالبريد العادي من كربلاء الى بغداد حيث مقر (مجلة الطليعة الأدبية) التي كان النشر فيها مقصوراً فقط على الأدباء المعترَف بهم، مرت شهور طويلة لأجد اسمي وقصتي (الحلم) منشورة في الطليعة الأدبية مع كبار الأدباء، فكان هذا النشر بمثابة تأشيرة دخول الى (قلعة) الأدب مع الاعتراف بي كقاص محترف، هذه نبذة عن بداياتي.
وفي الوقت نفسه كنت أقرأ بنهمٍ شديد المقالات النقدية، وأقتني الكتب التي تعرض للنظريات النقدية المختلفة، وأتذكر كيف كان النقد العربي والعراقي مشغولا جدا (بنظرية النقد البنيوية) وبعضهم ذهب الى (التفكيكية)، وآخرون أغرموا (بجماليات المكان كالناقد ياسين النصير)، ولكن استهواني الناقد العراقي الراحل علي جواد الطاهر، فأعجبت كثيرا بكتبه النقدية ومقالاته الانطباعية المنحى، وشابههُ في النقد الانطباعي الناقد الراحل (عبد الجبار عباس)، ولهذا بدأت أكتب النقد الانطباعي عن قصص الكتاب العراقيين، وأتذكر أنني كتبتُ مقالي النقدي الانطباعي الأول عن رواية الكاتب خضير عبد الأمير التي تحمل عنوان (هذا الجانب من المدينة) وتم نشرها في إحدى الصفحات الثقافية لإحدى الصحف العراقية، ثم واصلتُ كتابة القصة والنقد بإصرار ومتعة غريبة، واستمرت كتاباتي النقدية عن قصص وروايات الأصدقاء حتى بلغت أكثر من مئة مقال.
وفي الوقت نفسه كنتُ أركّز على كتابة القصة والرواية، وقدمت مجموعتي القصصية الأولى التي تحتوي عشر قصص بعنوان (امرأة على الرصيف)، الى الطبع في وزارة الثقافة، دار الشؤون الثقافية العامة في بغداد، وتم رفضها من الخبير آنذاك، ثم رأيت مصادفة احد النقاد المعروفين يعمل في دار الشؤون الثقافية، فأخبرني قائلا: إذا أردت أن تتم الموافقة على نشر مجموعتك القصصية، قم بما يلي: أولا غيّر عنوان مجموعتك لأنه ليس إعلامياً ولا يناسب المرحلة. وثانيا قم بإدخال ثلاث قصص تعبوية فيها.
وبعد سنوات طويلة أصدرتُ مجموعتي القصصية الأولى (كائن الفردوس 2001م). ثم واصلت إصدار العديد من الكتب السردية (رواية وقصة)، فأصدرت (رواية طقوس التسامي، ورواية تايتنك عصرية، ورواية رحلة غياب، ومجموعة قصص الأقبية السردية، وكتاب نقدي ثقافة الجدران) ولدي قيد الطبع رواية (حدائق الحروب) وقصص (عزلة الحمام) وكتاب نقدي (تهجير العقول) وكتب أخرى، وفي الوقت نفسه كنت ولا زلت أكتب عشرات المقالات النقدية (انطباعية)، تأثرا بالناقدين الراحلين (علي جواد الطاهر وعبد الجبار عباس)، ويوجد لدي كتابان نقديان أحدهما قيد الطبع، الأول يحمل عنوان (محاولة لتنسيق أحزان العالم)، والثاني تمت طباعته في وزارة الثقافة عنوانه (ثقافة الجدران 2014)، وهذا لا يعني بالطبع أنني لا أطلع وأقرأ نظريات النقد الأخرى، خاصة (البنيوية) التي اهتم بها كبار النقاد العراقيين.
أما عن المواصفات التي يجب أن تتوفر لدى الناقد، فأول الشروط أن يكون لديه إطلاعا عميقا وشاملا على جميع النظريات النقدية والمدارس الأدبية والفنية، وتاريخ النقد الأدبي، وثانيا أن يتابع بدقة وعمق وتواصل شديد كل ما يصدر من كتب أدبية جديدة (قصة، رواية، شعر)، ويتعاون بالتنسيق مع النقاد الآخرين على الانشغال بالكتابة النقدية الجادة عن كل ما يتم إنجازه من كتب أدبية جديدة. وكمثال لهؤلاء النقاد العراقيين المتميزين، أذكر الناقد الكبير (عبد الله ابراهيم)، والناقد (حاتم الصكر) والناقد (سعيد الغانمي) وغيرهم، فهؤلاء النقاد العراقيين يتصدرون الآن قائمة أهم النقاد العرب.
النقد بين السلب والإيجاب.. تعريف النقد
كلمة النقد قالوا عنها انها مشتقة من الفعل نَقَدَ؛ حيث تدلّ هذه الكلمة على بروز شيء ما، وقد تُستعمل أيضاً للدلالة على كشف زلات الآخرين، وأخطائهم، وعيوبهم.
يُعرف مفهوم النقد اصطلاحاً على أنه التعبير بكافة أشكال ووسائل التعبير عما تتضمنه المجهودات، والإبداعات، والأفعال، والأقوال البشرية الخالصة من إيجابيات وسلبيات.
كما هناك ايجابيات للنص هناك سلبيات أيضا يجب أن يجعلها أمام عينه وحتى لا يعاد الخطأ في المرات القادمة فعندما ينتقدك احد عليك ان تعرف ما الذي جعله ينتقد النص؟ الأسلوب؟ الفكرة؟ او الصياغة؟ وان كان هناك نقد لاذع مؤلم يراد منه الانتقاص من الكاتب او النص، وهذا اكثر ما نسمعه اليوم فنخبة قليلة هي من تتحدث بأسلوب جيد وتأخذ الايجابي قبل السلبي، لذا على الكاتب ان يكون حذر جدا في كتابة النص حتى لا يقع فريسة عند النقاد السلبيين. وان سمع النقد السلبي فهذا لا يدل على نهاية المشوار بل بداية جميلة لمشروع اكبر، كما قال يوهانس كيبلر - (عالم رياضيات وفلكي وفيزيائي ألماني): انا أفضل النقد الحاد من شخص واحد ذكي على التأييد الأعمى للجماهير.
يجب أيضاً على الناقد ان يكون منصفا، غير متحيّز إلى اسم او دولة او مكانة، وان يبذل المجهود في فهم النص ودراسته وثم ينتقد.
ملاحظات للتعامل مع النقد البناء:
1- الهدوء والاستماع جيدا للناقد.
2- تساءل عن الضعف والقوة حتى تعرف السلبي والايجابي ولا تكتفي بالصمت او الحزن، من حقك ان تعرف ما هو النافع والمضر في النص.
3- تقبل الكلام المضاد ثم اعرضه على ناقد آخر.
4- لا تدع الكلام السيّئ يؤثر على كتابتك واجعله سلما نحو القمة.
5- القراءة والتمعن في النص يجنبك النقد السلبي والجميع سيبهر بجمال نصك.
مراحل النقد عند العرب
انقسم النقد الأدبي الى مرحلتين:
المرحلة الأولى: مرحلة ما قبل التدوين (من العصر الجاهلي إلى مطلع العصر العباسي).
المرحلة الثانية: وهي فترة النقد الحديث التي تمتد إلى اليوم.
ولهذا التقسيم سبب واضح، ففي المرحلة الأولى لم يكن التدوين قد انتشر، وكان الاعتماد ينصبّ على الرواية الشفوية أما المرحلة الثانية فقد عرف التدوين الذي أسهم في تطوير كثير من العلوم والفنون.
النقد في العصر الجاهلي
يمكن أن يطلق على النقد في العصر الجاهلي بأنه نقد بسيط إذ لم يتعدَ (النقد الانطباعي)، فهو لم يتجاوز التفسير والأخذ بمعايير المجتمع وهذا ما يتجلى في النقود التي وصلتنا من العصر الجاهلي.
وقد وُجدت بيئات مناسبة لنمو هذا النوع من النقود منها سوق عكاظ وذي المجاز حيث يجتمع الشعراء لينشدوا أشعارهم ويتنافسوا فيما بينهم.
النقد في العصر الأموي
في هذا العصر امتزجت الثقافة العربية بالثقافات الأخرى المنقولة عن أمم عريقة في العلم، وأساليب التفكير عند اليونان والهنود والفرس وكان لهذه الثقافات أثر في صقل ملكات العرب وإرهافها وتوجيهها نحو تعميق البحث وسرت هذه الروح إلى الأدب ونقده، ففُسح مجال النقد وتشعبت مباحثه وتنوعت اتجاهات النقاد واتسعت دائرة النقد في أوساط العلماء باتساع دائرة الثقافة وتدوين العلوم المختلفة، وترجمة بعض الآثار الأجنبية وتنوعت مذاهب النقد وشمل كل ألوان الفن الأدبي ونفذ إلى كل جهاته، ويمكن القول أن النقد في هذه المرحلة لم يعد خطرات وعبارات مقتضبة وأحكاما سطحية وتعرضا لقضايا جزئية، ولكنه أصبح نقدا منهجيا له أصوله ومبادئه، دونت فيه المؤلفات وأصبح يهتم بالتحليل والتعليل، والخلاصة أن القرن الثالث الهجري شهد جمع العلوم العربية والإسلامية وتدوينها كما رافق ذلك التأليف في النقد وتدوينه، وشهد مشاركة النحاة واللغويين والعروضيين في النقد بسبب كثرة العلماء والمتخصصين في كل فئة، وتوارى النقد الذاتي لهذا القرن وحل محله النقد المنهجي وذلك بسبب أبواب المعرفة والثقافة وكذلك سار النقد في القرن الرابع الهجري وما بعده على هذه الأصول التي وضعت في القرن الثالث الهجري.
والعمل الأدبي هو نتاج أديب سواء ان كان شاعرا أم كاتبا أم خطيبا أم قاصا، وهذا الإنتاج الأدبي لا يكون إلا بعد معاناة الأديب وإحساسه بشيء حوله، فيتأثر به ويتخذ موقفا اتجاهه سواء كان سلبا أو إيجابا.
وهناك عبارة وصفها بعض الكتاب المبدعين، "انه عندما تقاعس النقد الحقيقي عن متابعة الأعمال الإبداعية، تحول المبدع نفسه إلى ناقد لما يكتبه غيره".
وثمة قول آخر "معظم الناس يفضلون أن يقتلهم المدح عن أن ينقذهم النقد" - نورمان فينسنت بيل.
اضافةتعليق
التعليقات