عُقد لقاء لكادر جمعية المودة والازدهار للتنمية النسوية مع سماحة آية الله السيد مرتضى الشيرازي (دام ظله) وذلك في النجف الأشرف، بتاريخ 14/3/2024.
حيث بدأ سماحته الحديث بالآية القرآنية المباركة:
(فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لأنفضوا من حولك فأعفوا عنهم وأستغفر لهم وشاورهم في الأمر).
وأردف قائلاً: هناك أسئلة ثلاثة ينبغي أن نطرحها على أنفسنا وأن نتدبر في الآيات والروايات الشريفة لكي نستكشف الإجابة عليها، والاسئلة الثلاثة كلها مصيريةٌ ومفتاحيةٌ وجوهرية.
السؤال الأول: ما هو الهدف من الخلقة؟
(لمَ خلق الله تعالى هذا الكون ولمَ خلقنا نحنُ بالذات)
السؤال الثاني: ما هو الهدفُ من البعثة أي البعثة النبوية الشريفة فالخلقةُ أمرٌ ثم في داخل هذا الأمر مستبطن البعثة؟
السؤال الثالث: ما هو الهدف من التشريعات الإلهية في العبادات والمعاملات من عقودٍ وإيقاعات وفي الأحكام حسب التقسيم الرباعي للشرايع؟
هذا بحثٌ مفصل ولم أجد من إستعرضهُ بما يفي بالجواب بشكل يُرضي ويثمر قناعتي بشكلٍ متكامل.
تطرقتُ لهذا البحث في كتاب "فقه التعاون على البر والتقوى" فمن أراد التفصيل فليرجع إليهِ هنالك وتطرقتُ بموجزهِ في كتاب مقاصد الشريعة ومقاصد المقاصد، إلا أن اللطيف في الأمر أن كلمة واحدة هي مجمع هذهِ الأهداف الثلاثة، أي تُشكل بتعبيرٍ آخر الإجابة على تلك الاسئلة البصيرية الكبرى ما هو الهدف من الخلقة ومن البعثة ومن التشريع كلمة واحدة "الرحمة" كما يستفاد من الآيات والروايات يقول تعالى:
(وما أرسلناك إلا رحمةً للعالمين) فهذا هو الهدف من البعثة، يقصد منها البعثة يعني مع الرسالة قد يكونُ النبيُ غير رسول وقد يكون مبعوثٌ كرسولٍ للعالمين فالهدفُ من البعثة الرحمة والهدفُ من الخلقةِ قبل ذلك أيضاً الرحمة لقولهِ تعالى: (ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم) إذًا تلك الرحمة بالمعنى الأعم وهذهِ بالمعنى الأخص فالخلقة خُلقنا لكي نُرحم ثمَ حيثُ أن الخلقة بدون بعثِ نبيٍ لا توصل الكثير من الناس بل لا توصل أيًا منهم إلى تلك الرحمةُ المتوخاة.
وهناك بحث مفصل عن اللطف في إحدى المجلات التي طبعت وبعض الكتب أيضاً. واللطف هنا لهُ ثلاث معاني من معانيه، المُقرب للطاعة، والمُبعد للمعصية. فخلقنا الله لكي يرحمنا، نحن لا نعلم مافيه صالح لنا ولا مافيه طالحُنا ولذلك كانت البعثة لكي يوصل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ايانا إلى ماخلقنا الله له فيكون مرشدًا ودليلاً، (إنا أرسلناك شاهدًا ومبشرًا ونذيرًا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرا)، ما مهمة السراج؟ أن الأعمى وغير البصير في الظلام أو البصير في الظلام لا يسقط في حفرةٍ أو بئرٍ أو لا يتعثر بحجرٍ أو صخرةٍ أو غير ذلك.
فالهدفُ من البعثة كالهدفِ من الخلقة هو الرحمة لكنها في نطاقٍ أشدُ تركيزا وكثافةً وقوة، ثم الهدف من التشريع أيضاً الرحمة، يعني لماذا أوجب الله علينا الصلاة والصوم والزكاة والحج وفرض على الزوج مسؤوليات وعلى الزوجة مسؤوليات وعلى الأبوين مسؤوليات وعلى المعلم والتلميذ والجار لجارهِ وعلى صاحب الدار والضيف إلى غير ذلك لماذا كل هذهِ التشريعات من واجب وحرام ومكروه ومستحب؟ كل ذلك لكي نُرحم، لأن الأحكام كما تعلمون حسب مسلك العدلية تابع للمصالح والمفاسد في المتعلقات فليس تشريع الله سبحانه وتعالى صرفًا لأجلِ أعمال مقامِ مولويتهِ.
كما أضاف سماحته: بضرب مثال الضيف حينما يزور أحدٍ إن طلب منهُ الجلوس في مكانٍ ما فعليهِ الاذعان كونهُ هو صاحب الدار. إن المولى لهُ أن يفعل ماشاء كما شاء في ملكه ولا يحتاج إلى علة خاصة، لكن مع ذلك الله سبحانه وتعالى لعميم لطفهِ ورحمتهِ لم يأمرنا بأمر لأجل المولوية الصرفة ولكن لما فيه صالح لنا مراعاةً لحالنا لم يراعي جانب مولويتهِ فهو غنيٌ عنا ونحن الفقراء إليه. فالتشريع أيضاً فلسفتهُ الرحمة يقول الله سبحانه وتعالى: (يريدُ الله بكم اليُسر ولا يريد بكم العُسر) إلى هذهِ الدرجة يريد الله أن يحيا عبدهُ براحة وسعادة، حتى وإن واجه بعض المشاق ولكن سيجني بعدها ماهو مضاعف، وضرب هنا مثًلا لمن يمارس الرياضة كل يوم ربع ساعة والرياضة كما نعلم صعبة قليلاً وفيها مشقة، ولكن في النهاية هناك نتائج وهو الحصول على جسم سليم وصحة عالية ومناعة عالية لكثير من الأمراض، هنا النتائج لا تساوي شيئًا أمام المشقة التي واجهتنا في ممارستها.
إذًا الرحمة هي منطلق الخلقة وهدف البعثة وهي إطار التشريع، لماذا نقول ذلك؟ لأننا لو عرفنا هدف الخلقة و البعثة و التشريع على ضوء ذلك سنسير في هذا المسار يعني إذا عرفنا بأن الرحمة هي الهدف وهي الغاية فعند إذن يتحول الإنسان إلى كتلة من الرحمة.
الأب الذي يعتقد بأن الله رحيم وخلقنا ليرحمنا والتشريعات كذلك لو سار على هدي هذهِ المعادلة الإلهية الحاكمة في عالم التشريع والتكوين لابدَ أن يكون هو أيضاً رحيم مع أبناءه والأم أيضا وكلٌ منهم للآخر للجار وللصديق وحتى للعدو!.
(ولايجرمنكم شقاقُ قومٍ على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقربُ للتقوى) فإذا عرفنا فلسفة الخلقة فإننا سنسير في هذا المسار.
ولهذا لابد أن تتقاطر الرحمة من جوارحنا وجوانحنا. وأن يكون الإنسان ظاهرهُ وباطنهُ رحيم.
كان الوالد (رحمهُ الله) يقول لابد على الإنسان أن يكون في كل حركاته وسكناته رحيم ولين، فبعض الأحيان نرى بعضهم ينظرون إلينا شزرًا، كنظرات الأم على الطفلة الصغيرة المسكينة وبعضهم تنظر أو ينظر إلى زميلهِ أو صديقه نظرة حادة وفي ذلك عدم لين ورحمة.
لذلك لابد أن يكون الإنسان كما ذكرنا لين في جوارحه وجوانحه والآية الكريمة صريحة في ذلك ، فبما رحمةٍ من الله لنت لهم ولو كنت فظًا - هذا في الجوارح- غليظ القلب- هذا في الجوانح-. يعني النبي ظاهرهُ رحيم ولين وباطنهُ كذلك.
الفض يعني ماهو ظاهر على آثار الخلقة من النظرة والكلمة والحركة وما إلى ذلك، وهذا هو الهدف الأساسي من الخلقة بعضهم يتظاهر بالطيبة والوداعة واللطف لكن داخله غير ذلك فلا فائدة منه، لذا أمير المؤمنين عليه صلوات المصلين في عهدهِ لمالك الأشتر يقول: (وأشعر قلبك الرحمةَ للرعية واللطف بهم ولاتكونن عليهم سبعا ضاريا تغتنم أُكلهم ..).
أن يشعر في الرحمة والعطف تجاه الناس وهذا شهر رمضان المبارك شهر جيد لترويض قلب الإنسان على الرحمة للشعور بالفقراء والأيتام والأرامل والمرضى والمستضعفين وغيرهم.
ثم لاحظوا التشريع ينبني على هذهِ القاعدة الإلهية العملية، الرحمة واللين هذهِ الفاء فاء التفريع لأن الله كان هو الرحمن الرحيم وخلق العالم للرحمة (وبما رحمة من الله لنت لهم).
التشريع ماذا؟
تأتي على ثلاث قواعد إنبثقت من ذلك المنطلق الإلهي الواسع، (فأعف عنهم) في علاقتك معهم إذا ظلموك، (وأستغفر لهم) في علاقتهم بالله تعالى، بعض الأحيان الناس يعصون فأنت استغفر عنهم الله تعالى في علاقتك بهم إذا ظلموك واستغفر لهم في علاقتهم بالله ، (وشاورهم في الأمر) في الشؤون الإجتماعية لدينا مثلث لهُ ثلاثة أضلاع علاقتهُ بالله إستغفر الله شاورهم في الأمر علاقة بعضهم في بعض شاورهم في الأمر المجموع به فهذا منهجنا ينبغي أن يكون في الحياة العفو عن الآخرين فبعض الناس نراهم في الحياة اذا اغاظهم شيء تنتفخ أوداجهم وتحمر عيناهم وينفجر غضبهم وعلى قول الشاعر: (الا لا يجهل أحدٌ علينا فنجهلُ فوق جهلِ الجاهلينا).
وهذا جاهل مطلق وهذا مجنون في تعاملاته وتصرفاته. الإنسان عليه أن يغير وضعهُ وحالهُ ويعتبر العفو واللين ديدنهُ و منهجهُ وأسلوبه في الحياة مع الكل فإذا كنتم كذلك فستكونون دعاة إلى الدين بغير ألسنتكم بل بأعمالكم كما في الرواية: (كونوا دعاة لنا بغير ألسنتكم) توجد رواية لطيفة عن الرسول يقول: أيعجز أحدكم أن يكون كأبي ضمضم. كان يقول أبي ضمضم (لقد تصدقت بعرضي على الناس) إذا أحد يسبني أو يغيضني أو يُذهب بماء وجهي أو أن كان يتحدث عن سمعتي ليخربها كل شيء لا أهتم إلى ذلك فهذا أبو ضمضم أسلوبه هكذا كان فالنبي يمدحه وهذا مقام عظيم جدًا. لماذا إستدعى النبي أن يذكره في التأريخ؟
لأنهُ تصدق بعرضه على الناس. هنالك أناس دأبهم النميمة ولكن كان أبو ضمضم عكس هؤلاء فالنبي يوصينا أن نكون مثله وهذا هو ظاهر الرحمة. بعض المدراء قساة وبعضهم لينين. هنالك فرق بين اللين والضعف، الله سبحانه وتعالى يصف النبي باللين، الضعف ينشأ عن الجهل أما اللين فينشأ عن الحكمة، التعامل بالضعف يعني اللاحكمة يعني العجز أما اللين فمنطلق الحكمة أنا قادر ولكن حكمتي تمنعني من الرد.
جوهرهُ أن اللين تهندسهُ الحكمة، من الجيد أن يعفو الإنسان على المقابل ومع ذلك أن يعفو وينصحه أيضًا أو يبعث من ينصحهُ باللطف. يقول أهل البيت (عليهم السلام): (ما وضع الرفق على شيء إلا زانه، وما الخرق على شيء إلا شانه) إذًا علينا أن نتخذ العطف واللطف واللين ديدنًا في الحياة، عندما نرى بعض الناس يتحدثون عن الغير بالذم للأسف نرى البعض يستلذ في الإستماع.
ثم يذكر أن أحد العلماء حضرته المنية ويبدو أنهُ كان في أواخر أيامه ناسياً المسائل الشرعية، العلماء اجتمعوا حوله من طلابه، وهو في حالة الإحتضار فرأى أن مسألة إرث الأجداد قد نساها وهي مسألة معقدة فسألهم ما هو الحل في هذه الحالة. قال له: لماذا تسأل هذا السؤال وأنت على فراش المنية؟، قال: أن أموت وأنا أعرف هذهِ المسألة أفضل أم أن أموت ولا أعرف؟ هل يستوون الذين يعلمون والذين لايعلمون؟
قالوا أكيد تعلم يكون أفضل. فالشاهد أن بعض العلماء يجلسون يبحثون في المسائل العلمية، أو في تطوير مؤسساتهم أو بعض النشاطات الثقافية العلمية. وبعضهم لا عمل لديهم فتكون فاكهة حديثهم الغيبة.
نحن نرى البعض يعصون الله بنظرة أو غيبة أو تهمة أو نميمة أو تقصير مع الله أو أهل بيته أو الناس لهذا يجب أن ندعوا له بقول يا إلهي هذا الإنسان يتعثر في الدرب فأرزقه الهداية. هذا الأمر كان النبي مكلف به فكيف بنا نحن؟. وهذا يعود بالفائدة لنا وتقويمنا فهذا من ضمن قوله تعالى (فأعف عنهم وأستغفر لهم).
من ثمرات ذلك أن نبتعد عن التعقيد وعن الروتين الإداري، فنرى بعض المؤسسات والشركات مثل بعض البيوت ديدنهم سن القوانين. إن سن القوانين كابتة للحريات وحكوماتنا مولعة بسن القوانين لكبت الحرية كما نلاحظ.
لذلك نجد أن من لديه مشكلة معينة مع الحكومة لا يستطيع أن يواجه الحكومة ليبدي إعتراضه على سلب حقه وهذا خلاف التيسير الإلهي وخلاف الحكمة. وعلى ذلك لابد أن يكونوا الحكام في المتناول كما في الرقعة المنقولة للإمام الحجة (عجل الله تعالى فرجه الشريف) فيقول: أرخص نفسك واجعل مجلسك في الدهليز واقض حوائج الناس نحن ننصرك.
حتى أي أحد بسيط كان يتمكن أن يراه ويبدي رأيه وليس لديه مشكلة وذلك من دون واسطة أو باب أو شيء. الإمام الحجة يأمر بذلك وفي كلمة عن أمير المؤمنين مضمونها يقول لمالك الأشتر (ولا يكن لك سفير للناس إلا لسانك ولاحاجب إلا حاجبك).
لذا كان الوالد يُعين ساعة يوميًا للناس وكان يقول من يأتي لا تسألوه مَن يكون ومن أين أتى فليدخل ويسأل مابدى له. وهذه كلها قوانين متفرعة من الرحمة ولابد أن يطلق هذا النظام في المؤسسات والمدارس أو مكتبة أو حزب معين أو نقابة أو عشيرة أو إتحاد أو حكومة. هناك رواية ايضا تقول: (بَارَكَ اَللَّهُ عَلَى سَهْلِ اَلْبَيْعِ سَهْلِ اَلشِّرَاءِ سَهْلِ اَلْقَضَاءِ سَهْلِ اَلاِقْتِضَاءِ) .
أما مايقصد بسهل القضاء والاقتضاء، فيعني أن تكون مثلا لديكم عندي حاجة بعض الناس إذا كان لديهم حاجة يتشدد في منحها للمقابل ويُعقد الأمور. تنقل ببعض الروايات أن النبي (صلى الله عليه واله وسلم) كان ممراضا يعني يمرض في الأسبوع مرة أو مرتين فكان يجلس من الصباح لأداء الصلاة، فكان الناس يأتون بأكواب وبعضهم كؤوس فيها ماء بارد يطلبون من النبي أن يُدخل يده فيها للبركة وكانت أعدادهم كبيرة وكان يلبي طلبهم فيدخل يدهُ من إناء إلى آخر بكل لطف رغم مرضه وكانوا لا يرون منه أي امتعاض .
بعض الأحيان أحدهم يلبي حاجته للمقابل ولكنه يكون ممتعضاً ولكن النبي رغم مشقة الموضوع وكثرة الطالبين كان يلبي طلبهم بكل لطف ويُسر، موطن الشاهد هنا أننا وفي هذا الشهر الفضيل رمضان المبارك أن نتخذ عبرة من هذا الموقف المزدوج أو المثل للخلقة والبعثة والتشريع لنكون في كل شيء لينيين لطفاء وحكماء. إن فرض الزي الموحد على أنه تقييد للحرية فبعض العوائل فقيرة لا تمتلك شراء مايستلزم ارتدائه للزي الموحد. وهذه كلها تنافي الرحمة الإلهية واللطف والرحمة. في كل جوانب حياتنا نجد عكس ماذكرناه في أغلب جوانبها وهذا هو السبب في تعكير حياتنا وعدم إتزانها.
اضافةتعليق
التعليقات