كنت أشعر بالرهبة الشديدة التي تجتاح خلايا جسدي كإجتياح السرطان خلايا جسد (والدي). عندما يتم ذكره أتخيل كأنه وباء خطير ينتشر فور ذكرهُ، نعم هكذا كان أعتقادي السائد حولهُ، كنا وأن صادف ذكرهُ أستعنا ببعض الكلمات التي تدل عليه تلميحآ لا تصريحآ، فالمتعارف عليه ان لو ذكر شخصا قد أصيب ب (السرطان) يسبقون قولهم بعبارات يذكر فيها اسم( الله) للشعور بالأمان وهذا ما قصدتهُ سابقا بانهُ (لعنة). وبعدها يكملون حديثهم بذكر جوانب هذا المريض الحسنة وكأنه قد مــات! وأنه ليس مجرد مريض، وترتفع دعواتهم بكلمات خالية من الإحساس عما هم عليه، بعيدة كل البعد عما يصارعهُ المريض مع هذا المرض اللعين. أصبح المرض جزءاً من العائلة ما دام أنهُ بداخل ذاك الجسد الحنون، أصبح يراقبنا ونحن نتسابق في الدعاء والصلاة وكأنهُ يعلم انهُ لن يذهب الا مصطحبا اياهُ. لاول مرة في حياتي أدرك ان الأمراض لها ذوق رفيع في أختيار الأشخاص من حولنا. بدأت الايام تزداد بأوجاعها وتعتصر ذلك الجسد الحنون، وكأنها تطالبهُ بثأر؛ كانت جريمتهُ الوحيدة انهُ لا شبيه ولامثيل له ابدآ، واصبح يشاهدنا بانهُ لا جدوى من الدعاء والبكاء والتضرع أبدآ، لأن المرض أخبره بالموعد المقرر الذي سيشدون فيه الرحال الى ذلك الإمكان الذي لا عوده فيه ولا لقاء أبدآ . وبقي أبي ينتظر موعد رحيلهُ بصمت مؤلم وعيون تأبى البكاء أمام من حولهُ، فالمرض الذي لا علاج لهُ الى الآن صار اقرب لهُ منا، والنجاة منهُ تكاد تكون مستحيلة، والتخلص منه طريق مليء بالألم الشديد. وهذا إن كان هناك شفاء فبذلك يكون معجزة، ولكن العصر الذي يحدث فيه المعجزات قد انقضى، لذالك شفاء السرطان أصبح أمرًا مستحيلاً تقريبًا. هكذا كنت أرى السرطان، كوحش مخيف يسيطر بقوة، كسفينة مثقوبة لا توفر ملاذًا، ولا يوجد طريق للنجاة والخلاص منهُ أبدا. الشخص الذي يمدُنا جميعاً بالقوة الازمة لتجنب السقوط في مُستنقع اليأس، الشخص الذي كانت ابتسامته تهّون وتشفي عللنا وتعب ارواحنا، الشخص الذي كانت ملامحهُ يشع منها الأمان بكل ما تحمل كلمة الأمان من معنى، الشخص الذي كان الأب للجميع والاخ والصديق، الشخص الذي أصيب أربعينهم جميعا بهذا المرض، قد بدأت ملامحهُ تذبل وبدأت نظراته تتعقبنا وبدأ يشعر بأن الحديث مضيعة للوقت ليس إلا، فهو يريد ان يحظى بالوقت الباقي مع عائلته. يالعجزنا عندما كنا نحوم حوله لا نملك شيئا من المساعدة سوى الدعاء، فكانت أيدينا ترتفع الى السماء مُثقلة بكل الألم والأحتياج والرغبة للإجابة في شفائهُ، لكنها في كل مرة كانت ترد خالية، لحكمة لا نعلمها. كانت مشاعر الخوف الممزوجة بالقوة تسود تلك الملامح الحنونة، ومن حينها استعدنا لمواجهة أهم الحقائق المؤلمة (الموت)، وبدأ الاستسلام والضعف يهيمن علينا فردا فردا. الى اخر اللحظات كانت عيناهُ تبرق بكل الحنان الذي أعتدنا عليه والقوة التي هي من أهم الدروس التي يجب علينا ان نبقى محتفظين بها والأمل الذي اختار ان يرسلهُ لنا وهو الان شارف على الذهاب. صار صموده مجرد تمثيل أمام صغاره لكي يتعلمو الثبات والقوة، وبذلك يكون الدرس الأخير الذي منحنا أياه بكل ذلك الحب الجميل الذي لم يتأثر بتلك الخلايا اللعينة، أو يجعلها تسيطر عليه، لأنه أختار ان يبقى مخلدا مهما توالت الأزمان والأجيال. وهكذا فضل أبي الرحيل، لأنه لم يعتاد ان يرى تلك النظرات من الجميع التي فضل الموت عليها، ولأنه لم يمارس المواجهة العنيفة لهؤلاء البشر فاختار الرحيل بكل سلام. فالسلام الروحي لتلك الروح الأبية والقوية التي يكفي انها واجهت اهم واخطر مرض وتحملت جرعات الكيمياوي التي تسبب احتراق جسده، وجفاف فــمه، وألم مستمر في عظامه، وفقدته الرغبة في الأكل، وعدم الشــعور بالطعم بكل ما يتـــناول، تسـبب بأذيته الى الحد الذي جــعل من ملابســــه كجـبل يجــثو على صـدرهُ، ونــار تسري في أوردتــهُ، وإن أقسى ماكان يعانيه من هذا كلـهُ الصمت بعد هذا والعناء بدل الصراخ هكذا هو أبـــي. الرحمة والخلود له ولكل من عاشوا هذه المعاناة، والشفــاء العاجل لمن هم من يحاولون الصراع معه، والتغلب عليه الآن .
اضافةتعليق
التعليقات