تبادلت أم البنين وولدها نظرة والهة, فيها من الطمأنينة مثل ما فيها من الخشوع... كان صوت أذان الأمير يجلجل في الفضاء, فيخترق القلوب قبل الأسماع, ويصل إلى الأرواح فيشع في أنحائها, ويملأ الكيان طهراً وتقىً وضياء.
وهب العباس يستعد للخروج بعد أن لم يعد يطيق المكوث, فسألته أمه:
- ألم تقل أنه ناشدكم عدم اللحاق به؟
وتبادر إلى ذهنها جوابه قبل أن ينطق به:
- سأذهب إلى سيدي الحسين!
وذهب... وأقفرت الدار من ظله, فتملكتها وحشة لم تتملكها من قبل, فلاذت بطيف الزهراء تنشد الطمأنينة والهدوء.
ثم إنها وقفت بعدئذ تصلي الفريضة, وتغالب ما اعتمل في سويدائها من تعاظم القلق, حتى بلغ الذروة.
لعل أم البنين كانت قد أنهت صلاتها للتو, ولعلها سجدت سجدة طويلة وهي تبتهل... لعلها غابت عن الوجود في خضم ما تعاني, ولم يكن ليوقظها إلا وقع خطوات متسارعة قلقة في الخارج, خطوات تعرفها جيداً, وتتصل ضرباتها بضربات قلبها, فتتحرك بخطى سريعة إلى الباب لتفتحه!
إنهما بنتا الزهراء, إنهما زينب وأم كلثوم, ولعلهما قصدتا الساعة إلى دارها, دار أبيهما, لحاجة ما!
ودخلتا, والتقت العيون بالعيون, وانسكبت الدموع فوق الدموع, واختلطت الزفرات بالزفرات, ولعل أم البنين لم تكد تسأل, حتى كانت أم كلثوم أسرع في بث همها والكلام:
- أماه... يا أم البنين, إن أبي قد نعى نفسه الليلة...
وتلاحقت أنفاسهن, وهن يستمعن إليها تصف ما جرى... كيف انتبه الإمام من نومه بعد رقدة قصيرة, وهو يمسح وجهه بثوبه, ونهض قائماً على قدميه, وهو يقول: "أللهم بارك لي في لقائك! "ثم يحوقل ويحوقل, ثم يعود إلى صلاته فلا ينام بعد ذلك قط, حتى إذا سألته أم كلثوم في ذلك أجاب:
- بنية, قرب الأجل وانقطع الأمل!
فبكت فحنا عليها يقول:
- يا بنية, لا تبكي, فإني لم أقل ذلك إلا بما عهد إليّ النبي... إني رأيت الساعة رسول الله في منامي وهو يقول: "يا أبا الحسن, إنك قادم إلينا عن قريب!".
لعل أم كلثوم غصت, فلم تعد تستطيع أن تتابع, ولكن, لعلها أصرت على المتابعة, رغم تزايد البكاء ممن حولها, من أختها زينب, من أم البنين, ومن عبد الله الذي انتحى زاوية يلهج ويدعو!
- لقد أسبغ الوضوء, ثم لبس ثوبه ونزل إلى الدار, كان في الدار إوز أُهدي إلى أخي الحسن, فلما نزل صحن في وجهه ورفرفن, فقال: "لا إله إلا الله, صوائح تتبعها نوائح, وفي غداة غدٍ يظهر القضاء", ثم إنه وصل إلى الباب فعالجه ليفتحه, فتعلق الباب بمئزره, فانحل مئزره, فأخذه وشده وهو يقول:
"اشدد حيازيمك للموت فإن الموت لاقيكَ
ولا تجزع من الموت إذا حل بناديكَ
كما أضحكك الدهر كذاك الدهر يبكيكَ"
اضافةتعليق
التعليقات