بعد صمت وانتظار طويل اتصلت بها احدى الوزارات وكانت تلك الوزارة اقل مما تحلم به سميرة لكنها رضيت بالواقع وقبلت به ونزلت الى الوظيفة التي اختيرت لها تحدوها امنيات دفينة واحلام كبيرة تتأجج في خاطرها، فاختارت احد الاقسام الادارية لتكون باحثة فيها، جلست الى مديرها وهو شاب صغير عابث يبدو انه شخصية فارغة، هكذا يخيل لها!.
فهي كانت تتحدث بحماس وتدافع عن فكرتها بقوة وتبدي آراءها بجدية واحترام بينما هو يبتسم كالأبله ويشرد في كلماتها كالمذهول، قطع حديثها بنبرة باردة "استريحي ياسميرة! هدئي من روعك"!
فتسمرت في مكانها تبددت الافكار وتسربت من مخيلتها انه كمن يسخر من عملها وافكارها الجديدة.
عبست في وجهه ثم اعرضت عنه ساخطة متجهة الى مكتبها وهي تكاد تنفجر من الغيظ، كانت هناك ثلاث موظفات يشاركنها الغرفة ذوات مؤهلات علمية مختلفة، رحبن بها ثم جلسن يتأملن هذه المخلوقة الجديدة التي جاءت ثائرة بأفكارها ومبادئها، فهزئن بذاك الحماس من فرط تأثير الواقع عليهن.
فأجابتهن سميرة "ولكن هذا الوضع لا يمكن ان يستمر فالفساد الاداري يعطل الانتاج وهذا ما جئت لابحث عنه لأدرسه واعالجه لا لأستسلم، سأناضل من اجل الفكرة التي آمنتُ بها ولا يهمني الواقع الفاسد".
فاجابتها الاخرى "مديرنا شخص جامد يحب الروتين لايوفر للموظف الظروف المناسبة التي تساعده على التطور.
فقالت: "سنتعاون معا من اجل التغير نحو الافضل سنطالب المدير بكل حقوقنا".
فجوبهت بالرفض الشديد منهن، فانهالت عليها المأساة تباعاً من سوء وضع المكتب والعاملين، والارشادات المغلوطة ووضع الاشخاص الخطأ في المكان الغير مناسب لهم، حاولت بكل طريق ان تنشط في عملها محاولة بذلك ترطيب الاجواء، لكن هذا ما كان ينفع، فحولها الكل يتهامس ويثرثر ويسرق من وقت العمل لذاته.
فكثر العراك بينها وبين المدير وكثر اللمز والغمز حولها واثيرت في طريقها الفتن والدسائس لانها نموذج اصبح مرفوضا في واقع المجتمع الحالي، سئمت من الصراخ سئمت من الابحار ضد تيار الواقع، سئمت الدوران في دوامة طحنتها حتى حطمت اجنحة التحليق في الأفاق البعيدة سئمت حياتها كلها، فهذه حرب نفسية مفروضة عليها فغرقت في نوبة كآبة عميقة جداً صعب على الجميع انتشالها منها.
لكن في صباح يوم خريفي التقت سميرة وهي في طريقها للوزارة الدكتور النفسي حسين، وكان زميلاً لها في الجامعة فتبادلا التحية وتحدثا عن امور عديدة حتى فهم من انين صوتها انها في ازمة نفسية وبحاجة الى من يقف الى جانبها، فطلب منها ان تزوره في العيادة في اليوم التالي، فوافقت وغمرتها نوبة سعادة فهذا ما تحتاج اليه، شخص يسمعها ويساعدها في الخروج من هذه الازمة.
فلما زارته سألها بعض الاسئلة التي عرف من خلالها انها تعاني من مجموعة من المشاعر المؤلمة الناتجة عن عجزها للوصول الى اهدافها في الحياة فحدثها بحديث طويل حاول من خلاله امتصاص الالم الذي يخالجها وبعد تشخيص المشكلة قال لها:
كوني واثقة من نفسك حتى لو عارضك الآخرون ووقفوا ضد افكارك ومبادئك وتعلمي مهارات التعامل مع زملائك في العمل.. سميرة عليكِ ان تشطبي هذه الصفحة السوداء من حياتك وافتحي عوضاً عنها صفحة بيضاء.
فعادت سميرة الى ذاتها وفي قرارة نفسها عزمت على ان ستحاول أن تتخطى هذه المرحلة بقلب من حديد وإرادة صلبة، قرأت في الكتب وعرفت ان حب الناس يدفعهم للإيمان بأفكارنا والاقتناع بشخصياتنا وفظاظة الطبع تنفر الآخرين منا، فحدة طبعها وقسوة سلوكها جعل حبل التواصل مشدودا يابسا حتى انقطع وانقطع الود والأحترام والمحبة ولهذا فمهما فعلت وانجزت وناضلت لن يسمع لها
ولن تقبل لها فكرة لأنها افترضت الأخرين أعداء وحسبتهم خشب مسندة لاروح لهم ولا أحساس..
هكذا كانت تتخيل وعلى ضوء ماتتخيل تتصرف فلابد من وجود نقاط ايجابية ومسافات رطبة نستطيع من خلالها ان ندخل إلى الآخرين بود ومحبة قد تصل إلى تحقيق اهدافنا على حساب قلوب مبغضة ونفوس نافرة..
ولو قلبت المعادلة لوجدت ان حب الناس هو المكسب الأول لأنه الطريق الى الصعود فكل القيادات على مر التاريخ انتشلت الجموع البشرية من اصنام الواقع والمثل المنخفضة الى اسمى التطلعات
ولم يتأتى لهم ذلك إلا عبر المحبة والتواصل الطيب القائم على التقدير والأحترام وإنكار الذات وفهم القدرات البسيطة لكل انسان.
وقد خاطبوا الناس على قدر عقولهم واتخذوا لغة بسيطة تناسب إمكاناتهم، لم يسخطوا منهم ولم يدخلوا معهم في صراع قائم على التعنت والعناد..
سحبت سميرة نفساً عميقاً واختلجت نبضاتها بمشاعر رقيقة تتدفق الى عروقها من جديد، شيء في اعماقها بدأ يهدأ ويفتر ويفرمل هذا الاندفاع المحموم نحو الهدف، فالسلم طويل والوصول اليه خطوة تلو خطوة، لن يضيرها شيء ان تتمهل او تتريث قد تجد فرصة افضل ومكاناً اجدى، هذا الاصرار الذي دفعها ان تحارب بضراوة وتخسر الاخرين لتقع في شراك الوهم والاحباط ستروضه سترطبه بلمسات دافئة من المحبة والصبر.
اضافةتعليق
التعليقات