موضوع الانشغال. إنّه لا يشكل مشكلة الوقت الوحيدة لدينا، ولا يعد مشكلة للجميع. ولكنه مثال حي وفريد على الجهد الذي نستثمره في محاربة قيودنا المتأصلة فينا، وذلك لأن الشعور بأن عليك أن تفعل أكثر مما يمكنك فعله أصبح شعورًا طبيعيا.
يعد "الانشغال" تسمية خاطئة لهذه الحالة، حقا، لأن بعض أشكال الانشغال يمكن أن تكون مبهجة. من منا لا يرغب في العيش في البلدة النشيطة (Busy town)، لا أحد في المدينة النشيطة عاطل عن العمل - أو إذا كان كذلك، فإنّه يُخفى بعناية من قبل المسؤولين،.. ولكن ما لا يشعرون به، هو الغرق في العمل. بينما نحن نعيش بقلق مستمر خوفًا، أو يقينا، من أن مهامنا لن تتناسب مع وقتنا.
تظهر الأبحاث أن هذا الشعور ينشأ في كل درجة من درجات السلم الاقتصادي. إذا كنت تعمل في وظيفتين من وظائف الحد الأدنى للأجور لإطعام أطفالك فحسب، فمن الطبيعي أنك ستشعر بالإرهاق. ولكن إذا كنت أفضل حالا، فستجد نفسك مرهقًا لأسباب لا تبدو بالنسبة لك أقل إلحاحًا: لأنك تمتلك منزلاً أجمل مع ارتفاع مدفوعات الرهن العقاري أو لأن متطلبات وظيفتك المثيرة للاهتمام وذات الأجر الجيد تتعارض مع شوقك لقضاء بعض الوقت مع والديك المسنين، أو المشاركة على نحو أكبر في حياة أطفالك، أو لتكريس حياتك لمكافحة تغير المناخ.
كما أوضح أستاذ القانون دانيال ماركوفيتس، حتى الفائزون في ثقافتنا المهووسة بالإنجاز - أولئك الذين يصلون إلى جامعات النخبة، ثم يحصلون على أعلى الرواتب - يجدون أن مكافأتهم تتمثل بالضغط المستمر للعمل "بكثافة ساحقة" من أجل الحفاظ على الدخل والمكانة التي تبدو وكأنها متطلبات أساسية للحياة التي يريدون أن يعيشوها.
ليس الأمر أن هذا الوضع يبدو مستحيلا فحسب؛ من الناحية المنطقية البحتة، بل إنه فعلا مستحيل. لا يمكن أن يتطلب الأمر أن عليك أن تفعل أكثر مما يمكنك فعله. هذا المفهوم ليس له أي معنى: إذا لم يكن لديك حقًا وقت لكل ما تريد القيام به، أو كنت تشعر أن عليك القيام به، أو أن الآخرين يزعجونك للقيام به، فأنت إذاً، ببساطة، ليس لديك الوقت - بغض النظر عما قد يثبت من مدى خطورة العواقب المترتبة على عدم القيام بكل شيء.
لذا من الناحية التقنية، من غير المنطقي أن تشعر بالانزعاج من قائمة المهام الهائلة. ستفعل ما يمكنك فعله؛ ولن تفعل ما لا يمكنك فعله. والصوت الداخلي المستبد الذي يصر على أن عليك فعل كل شيء، هو ببساطة صوت خاطئ. نحن نادرًا ما نتوقف عن التفكير في الأشياء بعقلانية، لأن ذلك يعني مواجهة الحقيقة المؤلمة لمحدوديتنا.
سوف نضطر إلى الاعتراف بأنّ هناك خيارات صعبة يتعين علينا اتخاذها: أي من الكرات سندعها تسقط، وأي من الأشخاص سنخيب أملهم، وأي من الطموحات العزيزة علينا سنتخلى عنها، وأي من الأدوار سنخفق فيها. قد لا تستطيع الاحتفاظ بوظيفتك الحالية إذا أردت أيضًا رؤية أطفالك بما فيه الكفاية؛ وقد يعني تخصيص وقت كاف في الأسبوع لهوايتك الإبداعية، أن منزلك لن يكون أبدًا مرتبًا بصورة خاصة، أو أنك لن تمارس الرياضة كما ينبغي، وهلُم جرا. بدلًا من ذلك، في محاولة لتجنب هذه الحقائق غير السارة، فإننا ننشر الإستراتيجية التي تهيمن على معظم النصائح التقليدية بشأن كيفية التعامل مع الانشغال: نقنع أنفسنا بأن علينا فقط إيجاد طريقة للقيام بالمزيد - لمحاولة معالجة انشغالنا، يمكنك القول، بجعل أنفسنا أكثر انشغالا.
وما زلت أعتقد أنه العلاج الوحيد الأفضل للشعور بضغط الوقت، ويعد خطوة أولى محررة رائعة على طريق تقبل محدوديتك تكمن المشكلة في محاولة تخصيص وقت لكل ما يبدو مهمًا - أو للقدر الكافي مما يبدو مهما فحسب - هو أنك بالتأكيد لن تفعل ذلك أبدًا.
لا يكمن السبب في أنك لم تكتشف بعد حيل إدارة الوقت الصحيحة، أو أنك لم تبذل جهدًا كافيًا، أو أن عليك أن تبدأ في الاستيقاظ مبكرًا، أو أنك عديم الفائدة بوجه عام. بل إن الافتراض الأساسي لا مبرر له لا يوجد سبب للاعتقاد بأنك ستشعر يوما بأنك مسيطر على كل الأمور، أو أنك تخصص وقتاً لكل ما هو مهم، ببساطة عن طريق إنجاز المزيد. كبداية، ما يهم هو أمر ذاتي، لذلك ليس لديك أي أساس لافتراض أنه سيكون هناك متسع من الوقت لكل ما تراه أنت أو صاحب العمل أو ثقافتك مهمًا.
ولكن المسألة الأخرى المستفزة هي أنك إذا نجحت في إدماج المزيد، فستجد أن قائمة الأهداف بدأت تتحوّل ستبدو المزيد من الأمور مهمة أو ذات مغزى أو إلزامية. اكتسب شهرة في أداء عملك بسرعة مذهلة، وستحصل على المزيد منه.
اكتشف كيف تقضي وقتا كافيًا مع أطفالك وفي المكتب، حتى لا تشعر بالذنب حيال أي منهما، وستشعر فجأة ببعض الضغوط الاجتماعية الجديدة لقضاء المزيد من الوقت في ممارسة الرياضة أو الانضمام إلى جمعية الآباء والمعلمين، ألم يحن الوقت أخيرًا لتتعلم ممارسة التأمل؟ أو أن تطلق العمل الجانبي الذي طالما حلمت به لسنوات، وإذا نجح، فلن يمر وقت طويل قبل أن تصبح غير راض عن إبقائه صغيرًا.
المبدأ نفسه يسري على الأعمال المنزلية ، توضح المؤرخة روث شوارتز كوان في كتابها مزيد من العمل للأمهات كيف أن ربات البيوت عندما حصلن أول مرة على أجهزة توفير وقت العمل مثل الغسالات والمكانس الكهربائية، لم يُوفّرن الوقت على الإطلاق، لأن معايير النظافة في المجتمع ارتفعت ببساطة لتعويض الفوائد؛ الآن بعد أن أصبح بإمكانك إعادة كل قميص من قمصان زوجك إلى حالته الناصعة بعد ارتدائه مرة واحدة، بدأت تشعرين بأنّ عليك القيام بذلك، لإظهار مدى حبك له. في العام 1955 ، كتب الفكاهي والمؤرخ الإنجليزي سي نورثكوت باركنسون: يتوسع العمل لكي يملأ الوقت المتاح لإنجازه، ليصاغ في ما أصبح يعرف باسم قانون باركنسون. لكنه ليس مجرد مزحة، ولا ينطبق فقط على العمل. إنّه ينطبق على كل ما ينبغي القيام به. في الواقع، إن تعريف ما ينبغي القيام به هو الذي يتوسع ليملأ الوقت المتاح.
إن هذه المفارقة المؤلمة برمتها، مدهشة بوجه خاص في حالة البريد الإلكتروني، ذلك الاختراع العبقري في القرن العشرين الذي يتيح لأي شخص عشوائي على هذا الكوكب، أن يضايقك في أي وقت يحلو له، ودون أي تكلفة تقريبا من جانبه، عن طريق نافذة رقمية تبعد بوصات عن أنفك أو في جيبك، طوال يوم عملك وفي كثير من الأحيان في أثناء عطلة نهاية الأسبوع. جانب "المدخلات" من هذا الترتيب - أي عدد رسائل البريد الإلكتروني التي يمكنك، من حيث المبدأ، تلقيها - هو في الأساس لانهائي. أما جانب "المخرجات" - أي عدد الرسائل التي سيكون لديك الوقت لقراءتها بصورة صحيحة، والرد عليها، أو مجرد اتخاذ قرار مدروس لحذفها - فإنّه محدود للغاية.
لذا فإن التحسن في معالجة بريدك الإلكتروني يشبه زيادة السرعة في صعود سلّم طويل لا متناهي ستشعر بمزيد من الاندفاع، ولكن بغض النظر عن السرعة التي تندفع بها، فلن تصل أبدا إلى القمة.
الأمر يزداد سوءًا، لأن تأثير تحوّل الهدف يبدأ هنا في كل مرة ترد فيها على رسالة إلكترونية، هناك احتمال كبير أن يثير ذلك ردًا على هذا البريد الإلكتروني، والذي قد يتطلب في حد ذاته ردًا آخر، وهكذا دواليك، حتى نهاية الكون. في الوقت نفسه، ستشتهر بأنك الشخص الذي يرد فورًا على البريد الإلكتروني، وسوف يعد المزيد من الأشخاص أن إرسال رسائل إليك في المقام الأول جدير بوقتهم. (على النقيض من ذلك، كثيرًا ما يجد مهملو البريد الإلكتروني أن نسيان الرد يؤدي بهم إلى توفير الوقت: يجد الناس حلولا بديلة للمشكلات التي كانوا يزعجونك لحلها، أو أن الأزمة التي كانت تلوح في الأفق وكانوا يرسلون رسائل إلكترونية بشأنها لم تحصل أبدًا).
ليست المسألة ببساطة ألا تتفقد بريدك الإلكتروني مطلقا، ولكن المسألة هي أن عملية "تفقد بريدك الإلكتروني" تؤدي في الواقع إلى توليد المزيد من الرسائل الإلكترونية. المبدأ العام في العملية هو ما يمكن تسميته بـ "فخ الكفاءة".
إن رفع كفاءتك - إما عن طريق استخدام تقنيات مختلفة لزيادة الإنتاجية، أو عن طريق دفع نفسك بقوة أكبر - لن يؤدي عموما إلى الشعور بأن لديك "وقتًا كافيا"، لأنه، مع تساوي كل شيء آخر، ستزداد الطلبات لتعويض أي فوائد. وبالإضافة إلى إنجاز الأشياء، ستبتكر أشياء جديدة لتقوم بها.
اضافةتعليق
التعليقات