أفكر.. ماذا إذا فقدتُ براعتي في الأدب.. الآن وقبل كل شيء، أرجو أن لايفقدني الله تلك الومضات، التي يوحيها الأدب لصاحبه، حتى يغدو محلا للوحي ومترجما له، تُرى هل تبدو النحلة ذات العسل الأحمر، أكثر أدبا من النحلة ذات العسل الأصفر، المهم نحلة.
مايزال قلمي يتوسل في محراب الوصل شهودا، يعلّمني كيف أغار على ابداعي من قراءات تظمأ لمائه، ولازلت أقفو وراءه تلميذة، أكابر فيه ذكره في القرآن في سورة، لها تفتّحات الورد في حديقة غنّاء.
أُعنّف من قبله، أحيانا يؤنبني.. لماذا تضيّعين أوقاتكِ بالرسم، في حين التزامكِ نصا أدبيا للكتابة، يغوص بي الألم على ساعات من العمر، تذهب هباء دون أي فائدة.. فرسوماتي مجرد لعب لا ترتكز على فن معين، أو مذهب أو مدرسة وماشابه، على أن ذلك بقدر ماهو مريح مزعج أكثر منه.
أحاول السيطرة على مشاعري، وأنا أسكب إبداعي من الوحي إلى القلم، ليعزفها على الأسطر كربابة أو قيثار أو سمفونية للحن عالمي.
تزعجني حرارة الجو يبدو دبقا كجو ساحل البحر.. والبحر أكثر ما يشتهيه الناس في الصيف، ولكنهم يعودون منه خاليي الوفاض، فهو يحبُّ من يبقون عنده، يسكنون معه، أمّا عابري السبيل لا يعتني بهم البحر كثيرا، ولعل شراء بيت على البحر، هدية لقطع المسافات البعيدة، شيء يرضي عظمة البحر ونزقه.
مع ذلك.. أشتاق إلى البحر الذي يبدو واضحا كأيامي، بحر في ساحل الحياة، شيء أنهل من فيضه الكثير، وكما الكرة الأرضية لها بحارها ومحيطاتها، كذا الإنسان له بحاره المتمثلة بالأنبياء والقديسين.. بحار تعلّمنا كيف نحبّ.
ومن تلك البحار: بحر هو زين العابدين (عليه السلام)، يسجّل حروفه في صحيفة، حقوقا نلتزمها، فحق المعلّم يروي لنا: (حق سائسك بالعلم التعظيم له، والتوقير لمجلسه، وحسن الاستماع اليه، والاقبال عليه، والمعونة له على نفسك، فيما لاغنى بك عنه من العلم، بأن تفرّغ له عقلك، وتحضره فهمك، وتزكّي له قلبك، وتجلّي له بصرك، بترك اللذات ونقص الشهوات، وأن تعلم أنك إلى من تلقى رسوله إلى من لقيك من أهل الجهل، فلزمك حسن التأدية عنه إليهم، ولا تخنه في تأدية رسالته والقيام بها عنه، إذا تقلّدتها ولا حول ولاقوة إلا بالله).
ولعل أجمل الكلمات التي يعلمنا إياها إمامنا السجاد، التي جاءت في محضر مناجاته مع بارئه:
(الهي من ذا الذي ذاق حلاوة محبتك فرام منك بدلا، ومن ذا الذي انس بقربك فابتغى عنك حولا).
وأكثر ما يشد المرء إلى محبوبه، ألفاظه الرقراقة، وحوادثه البسيطة، أشياؤه الصغيرة واعتناؤه بالتفاصيل..
(سبحانك ما أضيق الطرق على من لم تكن دليله، وما اوضح الحق عند من هديته سبيله).
فإذا نهض المحبوب بالرغبة سأل قائلا: (اللهم احملنا في سفن نجاتك، ومتّعنا بلذيذ مناجاتك، وأوردنا حياض حبّك، وأذقنا حلاوة ودّك وقربك، وٱجعل جهادنا فيك، وهمّنا في طاعتك، وأخلص نيّاتنا في معاملتك، فإنّا بك ولك، ولا وسيلة لنا اليك إلّا أنت).
ولعلّ المعلّم زين العابدين (عليه السلام)، يقتدي بعلي (عليه السلام)، كيف لا؟ وهو يخاطب الله في مناجاته في شهر شعبان:
(إلهي هب لي كمال الانقطاع اليك، وانر أبصار قلوبنا بضياء نظرها اليك، حتى تخرق أبصارنا حجب النور، فتصل الى معدن العظمة، وتصير أرواحنا معلّقة بعز قدسك.. الهي فاجعلنا ممن ناديته فأجابك، ولاحظته فصعق لجلالك، فناجيته سرّاً وعمل لك جهرا).
كثيرة هي الشواهد على العلاقة الرابطة بين الأئمة وخالقهم، بدءاً من النبي الخاتم إلى الحجة القائم، ومنهم نتعلّم كيف ننسج علاقتنا مع بارئنا، في خطوط وثيقة متمكّنة، تزخرف حياتنا بالالتزام المُبهج.
فزبور آل محمد مازال يتلو، وتُتلى به تراتيل تناظر مزامير داوود، فيخشع القلب بلحن، تحنُّ إليه الطيور في أوكارها، وتسبّح به الجبال، ومازالت حقوق لصاحبها محفوظة، تنتظر من يقوم بها حبّا وفريضة وواجبا ومستحبا، لتخرج الانسان إلى نور الانسانية التي أرادها له الله سبحانه.
اضافةتعليق
التعليقات