في كف العطاء، قصة عمرها تسابق الزمن بمفرداتها، وتسجد كلماتها بذلا، ليكون جهادها مخضباً بالألق.
وكما أن الثمر له طلع نضيد، كذلك الكتاب متميز بلقاح عقلي فريد، يكابح الضد فيه ليرفع من مستوى ذخيرته وخلوده في التاريخ .
في زمن السباق ودوام تحصيل الغاية، تتوافد القلوب الطيبة لعمل الخير وكتمان الوجع لترضي النفوس المتوجعة من ضيم الظرف، وخباثة اليد القاصرة والمقصرة في آنها، فيرتفع مستوى النظر، وتفهم البصيرة وقتها، أن البيت المخلد مازالت يده الطولى تخبئ له المزيد، من النعم الجسيمة والوفرة العميمة وبأعلى مستوى من الثقافة والإدراك والوعي وما زال رابط النبوة والأئمة في يد أمينة يدور معهم حيثما دارت السنون وجالت الظنون .
في هذه الأيام المتعبة، وأجواء الضجيج المقلق على مد الظروف التي يمر بها الفكر والمنهج، تلتقي الهمم لتراود مكاسبها من أفواه خلدها التاريخ قلما وكتابا ومنبرا ومسيرة متألقة تميزت بعمقها وطول نفسها لنحت كل ماهو رائع ورهيب في خدمة ارتقاء الذات إلى حيث الرضا والطمأنينة، فكان المرجع الراحل السيد محمد الشيرازي أحد آباءه وزعيما لهذا الطرح، وابن المنهج العقدي الذي خدم أعتاب الحوزات والمعارف من قلمه النقي الصائب .
في هذا العالم المزدحم بالأخذ والعطاء، كان سماحته متقد النشاط، لا ترقد همته بسلام حتى يصل غذاء فهمه، ومقدار فكره، وسماكة أخلاقه وماحوته مصادر تربيته من تراث الغيب، وسفينة النجاة، رسول الله وعترته المنتجبة إلى كل بيت، ومكتبة، وإلى ذهن المتصفح لشارع الحدث الفضيع، دعما منه لحل أزمة أو ترسيم فكرة تصب في خدمة الرفاه البشري وعلى كل الأصعدة .
لم يكن بمقدور البيت الشيرازي وقتها، إلا التصدي للوجع المبتور، فثمة قلق كان يحوم حول قيادة المعرفة، ليحجم من ذلك النشاط ، وذلك العطاء، وكما تعلمون أن طريق الحق محفوف بالمخاطر، ومن يتفوه به يقطع عنه منسوب التواصل ومتعلقاته فكان لابد من الدعاء أن يسعى نوره ولو كره الظالمون .
في حقيقة السعي والتزام التمرد على النفس، كان سماحته، عنوان الوفاء للمذهب وخدمة آل البيت وجمال نفسه ووثوبه وعزمه لإيصال الفكر العلوي لأم التراث الحوزوي وبأسلوب مختلف تماما تميز بالتفرد عن غيره إبان حياته.
لم يكن الوقت له سهم يقتله بالفراغ، بل كان يستوعب كل الظروف وإن أخذ الوقت منه راحته، فلا يترك شائبة فكرية إلا وغذاها من فكره الصائب المتفتح حتى وإن كلفه الغالي من حياته.
الكتاب والقرطاس والقلم، علمه وعمله.. وماكينته التي تنضب نورا وإشعاعا ولازالت أم المكاتب عامرة ومنعمة بكمالات عقله النابض بالحياة، صدقا.. كان هو السباق للزمن والفائز بمجازات الأفكار، ومجارات الإعمار، حتى أخذت خدماته حيزا بليغا لم يسبقه أحد في زمنه "قدس الله سره".
فتفرد بالواقعية وإلمامه بالمواقف، وإخلاصه ومصداقيته في الخدمة لكل الناس وفي أشد الظروف .
قوي في نفسه، رحيما بين الناس، خلوقا في قلمه ولسانه، عميقا في صداه، يافعا في فكره، مجازفا في عطاءه، مقداما مترفا، صلبا عند الشدائد، ذائبا في خدمة جده الحسين (سلام الله عليه).
التاريخ وفي كل حقبة يحتاج إلى من يجدد حضارة ويرفع منارة، ويرفع شعاره، ويكثر من العبارة، لأن الجهود إن كانت في خدمة الله تنمو، فتكون عبّارة للمجد، مكتنزة الثقة بالغد، وذلك بفضل جودة القلم والكتاب، وصدق القول والفعال، وهذا ما سعى إليه المرجع الراحل في أن تكون حياته عبارة عن وسيلة لفعل الصواب وخدمة العباد ومنطلق ثوابته نابعه من أصل الشريعة وسيرة النبي وأهل بيته الكرام البررة، وهذا أعظم توفيق وهبه الله تعالى له واستثناه لذلك، أن جعله مجددا بعطاءه وقد صبغ كتابه وفكرة وقلمه بالاستثناء والوفرة .
وقد شكل انعطافه مهمة وجولة تأريخية مختلفة ومتميزة يشهد له الكثير من العلماء وأصحاب الكتب والمراجع ..
(لم ينتظر رحمه الله، الدور كما يفعل بقية العلماء بل شق طريقه وفرض نفسه على الساحة الإسلامية بأطروحاته الجيدة، وكان (قدس الله سره) يهتم بالشباب كثيراً، ودائم السؤال عنهم ويحضهم على العمل الرسالي ويدعوهم إلى الزواج المبكر والتسلح بالعلم والأخلاق العالية والانخراط في الأعمال الفكرية والثقافية والإعلامية الهادفة.
كان رحمه الله جبلاً شامخاً بالصمود وتحمل المسؤولية والاستقامة ولذلك كانت مواقفه ثابتة لا تتغير أمام الصعوبات.
عاش زاهداً ورعاً تقياً لم يستملك بيتاً أو عقاراً ولم يخلف درهما أو دينارا بل خلف مصداقا للحديث الشريف علماً واسعاً يستفاد منه ومئات بل آلاف الصدقات الجارية منتشرة في ربوع العالم كله وذرية صالحة متمثلة في أولاده العلماء الكرام)*.
حقيق علينا، أن نعترف بتقصيرنا تجاه من هم أهل العظمة والكمال، لأن الفضيلة في قلبهم مكسوة بالبرهان والحكمة، وكذلك فقدهم حزنا ووجعا لاينساه الذاكرة.
اضافةتعليق
التعليقات