وهب الله لنا مجموعة من الحقوق، وعلى رأسها الحرية، فهو مبدأ أساسي دعت إليه جميع الأديان والمذاهب الفكرية الحقّة، ومنها آخر الشرائع السماوية ورسولها النبي محمد صلى الله عليه وآله، إلا أنها لم تعطى بشكل مطلق، بل ببعض القيود والشروط.
ولكن الكثير من المجتمعات _على انتهاجها لدين معين_ شددت تلك القيود على المرأة، ومنهم من صنع لها أغلالاً اتخذت أغلب أشكالها من عادات جاهلية وتقاليد وعرف خاطئ، فانتشرت أنواع من العبودية ظلمت النساء ظلماً لا يرضى به دين ولا عقل.
في حين كرّم الاسلام المرأة ووسّع من مساحة حقوقها، ورفع من قدرها وأعطاها حقوقاً وواجبات تتشابه جلّها مع الرجل إلا البعض منها التي اختلفت بسبب التفاوت الطبيعي بينها وبين الرجل، ومن يتصفح التاريخ سيقرأ صفحات مشرقة لشخصيات نسوية ذوات فكر حر ومواقف مسؤولة وكان لهن دور بارز في عصرهن ومجتمعهن.
السيدة فاطمة المعصومة بنت الامام الكاظم وأخت الامام الرضا إحدى تلك الشخصيات العظيمة، صحيح أن جميع نسوة بيت الرسالة ذوات تاريخ مشرق، إلا أن هناك أسماء تركت بصمة خالدة على جبين الانسانية.
لقد تميزت السيدة المعصومة بعدّة مواقف مما جعل اسمها مضيئا يتلألأ خلف أنوار نسوية أخرى على رأسها سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء ومن ثم ابنتها حاملة رسالة أخيها الحسين عليهم السلام.
ورغم أن ماوصل إلينا من أخبار هذه السيدة الجليلة النزر القليل، وهذا ديدن الأقلام المؤرخة الظالمة للبيت العلوي عموماً ونسائه خصوصاً، لكننا نستطيع أن نستنتج ونستلهم عدّة عِبر تتعلق بحياة هذه السيدة المباركة ونرى كيف وظفّت مبدأ الحرية المسؤولة في الخيارات والمواقف التي اتخذتها وتبنتها.
المبادرة الحرة المسؤولة
إحدى أشهر المواقف التي خلدت اسم السيدة فاطمة هي ردة فعلها بعد دخول مجموعة من الشيعة إلى المدينة وكانوا يحملون عدة أسئلة للامام، وقد كان الامام موسى بن جعفر وابنه الرضا خارج المدينة، فاغتمّ هؤلاء لعدم حصولهم على استفساراتهم، وعندما أقفلوا راجعين بادرت السيدة فاطمة بالنظر إلى أسئلتهم وكتبت لهم الأجوبة وقدمتها لهم، وكانت في ذلك الوقت في عمر صغير، وعندما غادروا المدينة التقوا بالامام الكاظم وحدثوه بما حصل، رأى الامام الورقة والأجوبة وملأ الفخر جوانبه على تلك النفس العظيمة والعلم الجم الذي تحمله ابنته الصغيرة، وقال مقولته المشهورة عنها: "فداها أبوها".
ترى على ماذا استند ذلك القرار الحر والمسؤول والذي لم يحدّه خوف أو شك أو تردد؟
لقد اتكأ على الايمان والعلم الذي ورثته من التربية العلمية السليمة، إنها من بيت أبنائه زقّوا العلم زقّا، ولقد وافقت على استثمار هذا العلم بسبب الثقة التي زُرعت في نفسها من أباها وأخيها، واعتمدت بشكل أساسي على متانة ماتملك من علم ومعرفة ودراية بكل العلوم ولاسيما نقل الحديث، ولابد أن الامام قد أعطى لها الدعم والتشجيع والحرية في التصرف وأخذ القرار، وغدت بذلك واحدة من الرواة الثقات للحديث النبوي والتي نقل عنها الكثير من العلماء.
الاختيار الحر والمسؤول
لم تتزوج السيدة فاطمة المعصومة رغم تزاحم مريديها، اختلفت الروايات في سبب ذلك وتضاربت، ولعل من أقوى التفسيرات أن سبب ذلك يعود إلى أن الامام الكاظم وعندما غادر المدينة قهراً فوّض أمر زواج بناته ومنهن السيدة فاطمة إلى الامام الرضا وكان إحدى أهم الشروط بطبيعة الحال هو وجود الكفؤ لها.
إذن، صحيح أن الزواج سنّة مؤكدة، إلا أن السيدة فاطمة ماكانت لتعترض رأي المعصوم الصائب في أهمية زواجها من الذي يستحق أن يصون الجوهرة المحمدية.
القرار الحر المسؤول
لم تحتمل السيدة فاطمة بعدها عن أخيها الرضا الذي شدَّ الرحال إلى خراسان وذلك بعد أن أجبر المأمون الامام بقبول ولاية العهد، اشتاقت إلى رؤيته، فقررت الهجرة إليه واصطحبت أربعة من أخوتها معها في هذه الرحلة التي ستكون بلاعودة، إنه قرار شجاع وغير مضمون النتائج وهي تعلم بطش وغدر الدولة العباسية، وبالفعل هوجمت هذه القافلة في مدينة ساوة وقتل أخوتها من قبل أعداء أهل البيت المرتبطين بالمأمون، ويقال أن السم دس إليها أيضا.
مرضت السيدة وعلمت أنها قريبة من مدينة تدعى قم، بالتأكيد ليست مصادفة أن قررت بتغيير مسيرها والتصميم بالذهاب إليها، عم الفرح والسرور وتشرفت تلك المدينة بدخول ابنة الكاظم إليها، بقت هناك في آخر أيامها بعد أن كابدت المرض حتى ارتحلت إلى جوار ربها.
وباتت قم من المدن المقدسة التي يتخرّج من مدارسها الدينية على مدى السنوات آلاف العلماء بفضل الله وبركة هذه السيدة.
وإن فضل زيارتها كبير جداً، يقول الامام الصادق: "من زارها عارفاً بحقها فله الجنة".
ويروى عن السيد محمود المرعشي أنه أراد أن يعرف قبر الصديقة الزهراء، فتوسل إلى الله حتى تشرف بلقاء المعصوم، وقال له "عليك بكريمة أهل البيت".
نعم، فلقد وصلت تلك الطاهرة لمكانة عظيمة أهلّتها لامتلاك الشفاعة التي تُدخل بها من تشاء من شيعتها ومواليها.
فعلى كل امرأة أن تقتفي أثرها، وتتحرر من القيود الذهنية والمجتمعية الضيقة وتفكر بمسؤوليتها الشرعية والرسالية تجاه نفسها وغيرها وتحت إطار هويتها الاسلامية ومنظومة مجتمعها القيمية الحقّة. وأن تميز وتعرف ما الذي يمكنها القيام به باسم الحرية المسؤولة.
اضافةتعليق
التعليقات