الشوق تلك الآفة التي تنخر جسدك وروحك بدون داء، فتجتمع الآفات لتواسي لهيب الاشتياق، فتأكلك ذكرياتك، وأن تسردها للفراغ تواسي صمتك وتحاكي ضجيج الهواء فلا من مُسمعٍ والأشد إيلاما أن يكون من أحببته محتضنا التراب.
لازال الصوت يبثُّ موجاته في جداري المتآكل ويرسم المواقف التي تجمعّت هنا تحت جدراني لأشهد أني شهدتُ ما لم يشهده أحدٌ غيري من الكائنات، وأقرُّ بأن الحب لا يغني عن إبلاغ كنهه ومعرفة صفاته كيف لا وأنا أغرق كل ليلة ببحر جوده وأرتشف من دموع سجوده، وأنا في وجودي الجمادي أبحر بتراتيل وصله وصوت مناجاته، كيف أنسى مواطن العلم التي أقحم بها خصومه ومناهل المعرفة التي سقى منها محبيه، وهل أنسى جوده وأنا أرى قضاء حوائج الناس بين أكفه، لازلت أذكر كيف أتاه أحمد بن حديد_هكذا سمعتُ أسمه_ حين قال وهو يروي تلك الحادثة على مسامع أحدهم: خرجتُ مع جماعة حجاجاً فقطع علينا الطريق فلما دخلت المدينة لقيت أبا جعفر (عليه السلام) في بعض الطريق فأتيته إلى المنزل، فأخبرته بالذي أصابنا فأمر لي بكسوة، وأعطاني دنانير، وقال: فرقها على أصحابك على قدر ما ذهب فقسمتها بينهم فإذا هي على قدر ما ذهب منهم لا أقل ولا أكثر. وكان لإذني أن تجمع بين الحادثين فرأيتُ ما صدر من الامام وسمعتُ ما روى الرجل.
وهكذا تترى الحوادث على مرأى مني، لو قُدّر لي أن أنقلها لنقلتُ ما لاعين ترى ولا أذن تسمع لكن تلك المشيئة الازلية تمنع أن ننطق من بين ذرات بنائنا لنعيش نحتضن الحقائق ونرى نكرانها من قبل بني العقل.
وطريف الذكرى عندما طيفها يمرّ فتلوحك نسمة ابتسامة تخفي بها بؤس الفقدان تلك الذكرى التي عندما أتاه رجلٌ فقال له: أعطني على قدر مروّتك.
قال (عليه السلام): لا يسعني ذلك.
فقال: على قدر مروّتي.
قال: أما ذا فنعم.
ثم قال (عليه السلام): يا غلام أعطه مائتي دينار.
أصمُّ قلبي عن ترنيم عزف الماضي وأتذكر إيقاع الحروف وهي تنساب من بحر الحكمة حين يقول: "أهل المعروف إلى اصطناعه أحوج من أهل الحاجة إليه، لأن لهم أجره وذكره، فمهما اصطنع الرجل من معروف فإنما يبدأ فيه بنفسه فلا يطلبن شكر ما صنع إلى نفسه من غيره".
أيجبرني التوق لأسرد همسٌ مضى وأبكي دموعا من جفاف الصبر وأنا اشعر بعجزي أمام وجعه وهو يعاني من انتزاع روحه، أو أرضى بوجودي حين بقى ثلاثة أيام مستلقيا على ظهري.
فوداعا يا صوت ضميري ويا لساني الكليل عن مزاولة النسيان.
اضافةتعليق
التعليقات