جلست صامتة كأنها فقدت القدرة على النطق بقيت هكذا طويلا تجول بعينيها الذابلتين ارجاع المكان حتى سالت مدامعها على وجنتيها المجعدتين.
لقد تركها ورحل دون عودة لم يلتفت إلى ما خلفه، بعده كأنها لم تكن موجودة في حياته ولم تحمله في أحشائها, ولم تلده, ولم ترضعه من حليبها, اخبرها بأنه سيسافر للعمل وبأنه لا يستطيع أن يأخذها معه.
بقيت في دار المسنين سنة تجر سنة حتى تاهت في غياهب السنين الطوال بالانتظار وهي ترنو بعينيها إلى الأفق المترامي من نافذة حجرتها الصغيرة لعلها تلمح شخصه عائدا لاصطحابها.
كانت هذه حكاية أم عماد وهي إحدى المسنات اللواتي يقطن في دار المسنين في محافظة كربلاء المقدسة, انهم كبار السن الشريحة التي سنكون مثلهم في يوم ما, الحال الذي لا بد أن نصل إليه إذ مدَّ الله في عمرنا، من ضعف أو مرض, أو ذاكرة ضائعة وأيام مرت وكأنها لم تمض.
ينتابك حزنا كبيرا وأنت تنظر لهم وهم بعيدين عن ذويهم, الذين تركوهم في دار المسنين دون أن يرق لهم جفن, أو ليس لديهم احد في هذا العالم الواسع سوى رحمة الله, وأيادي رحيمة امتدت لتكون عونا لهم على قسوة الحياة والمعيشة.
(بشرى حياة) سلطت الضوء على هذه الشريحة لتتعرف على أوضاع المسنين داخل الدار من رعاية, والأسباب التي أدت إلى دخولهم إليه..
أكملت ام عمار حديثها وهي تمسح ذرات الدمع من عينيها الذابلتين: "أنا مشتاقة له ولأحفادي ولبيتي وجيراني رغم رعايتهم لي هنا إلا إني احن إلى العودة إلى بيتي الذي قام ببيعه ليهاجر خارج العراق ويتركني هنا وحيدة".
الأيادي الرحيمة
فيما استهل ابو كريم وهي كنية مستعارة 80 سنة حديثه بجملة:
(أنا لم ارتكب جريمة) تزوجت بأخرى وهذا ما سمح الشرع به لربما كنت مقصرا في بعض الأمور مع زوجتي الأولى إلا إني لم اتركهم أو أتخلى عن مسؤولياتي اتجاههم, ولم أتصور أن زواجي سيجعل من ابني وحش كاسر ويجرده من كل مشاعر العطف اتجاهي, كنت انتظر العطف منه لا الواجب الذي شرعه الدين".
واصل حديثه: "عدت لأعيش في بيت زوجتي الأولى بعد وفاة زوجتي الثانية فلم يرزقني الله بالذرية منها, أردت أن اقضي ما تبقى من عمري معهم لأموت بينهم, إلا إني صدمت حينما وجدت ابني يصطحبني إلى الدار لأقضي أيامي الأخيرة هنا وحدي انتقاما لأمه مني".
تبلورت دمعة في عينيه سرعان ما كفكفها وأشاح بوجهه إلى الجهة الأخرى ثم ختم حديثه قائلا: "كل ما أخشاه أن يفعل ابنه به ما فعله بي, إني ادعو الله أن يسامحه, وان يبارك له في ذريته, وما يزيد حزني هو تطلعي إلى قارعة الطريق على أمل أن يأتي احد لزيارتي من صديق أو قريب فلم يزرني احد منذ سنين خلت".
في ما قال طارق وهو اسم مستعار يبلغ من العمر سبعين عاما وقد غطى الشيب رأسه بالكامل: "لم أتزوج وبقيت وحيدا وأنا شديد الندم على ما فاتني من عمري، لدي أخ اصغر مني تزوج وهو يعيش خارج العراق أما أنا فبقيت بلا مسكن ولا عائلة تحتويني فلم أجد أمامي سوى المجيء إلى دار المسنين لأمكث هنا, حتى يدركني الموت".
وقال مضيفا: "أن الدار تقدم كل ما يلزم لهم من احتياجات, وهو يلقى الرعاية الكافية إلا إنه يشعر بالحزن بين حين واخر لبقائه وحيدا, وقال دون تحرج بأنه كثيرا ما ينطوي على نفسه ويجهش بالبكاء على حاله".
ختم حديثه متمنيا: "أن يعود الزمن أدراجه ليكون أسرة تحتويه في كبره".
ومن جهتها تقول أم رقية: "لقد اخترت أن أعيش بالدار بملئ إرادتي فقد عشت مع ابنتي الوحيدة في بيت زوجها وأطفالها, وذات مساء سمعت زوجها يتذمر من بقائي بينهم, لهذا قررت أن أعيش هنا".
أكملت حديثها: "لقد مضى سنتين على مكوثي هنا لقد حفظت ماء وجهي وكرامتي, ولأجل أن لا تتفاقم المشاكل بين ابنتي وزوجها بسببي, لقد صدمت ابنتي بقراري وكلما تأتي لزيارتي تذرف الدموع لكنها لا تستطيع أن تفعل شيء, في بادئ الأمر كان الحزن يعتريني, إلا إني اعتدت على وجودي بالدار وأصبح لدي صديقات بمثابة أخواتي, وقد ملأت فراغي أيضا بقراءة الزيارات والأدعية والقرآن والصلاة".
الحضن الدافىء
وكانت لنا وقفة مع مدير دار المسنين في محافظة كربلاء المقدسة احتشام الهر قالت من خلالها: "يعد دار المسنين هذا بالنسبة للنزلاء الحضن الدفىء الذي احتواهم بعدما عصفت بهم رياح القدر".
واضافت: "لقد عملت في الدار منذ عام (2003) وانا المسؤولة إداريا عن قسم الرجال والنساء, ويتضمن الكادر (27) موظف على وزارة العمل و(6) موظفين من المفرزة الطبية و(5) من حماية المنشآت".
وتابعت: "أن عدد المقيمين من الرجال والنساء (43) مقيم وهو العدد الإجمالي في قسم الرجال والنساء, إضافة إلى النزلاء الذين خصتهم الوزارة باستثناء نسبة خمسة بالمئة وهم الذين لم يكونوا بالعمر المقرر لدخولهم الدار, لكن نظرا إلى ظروفهم الاجتماعية اذ يكونوا بدون مأوى فتستقبلهم الدار".
واشارت الهر الى إن الدار استقبلت أيضا كبار السن من محافظات مختلفة منها, بغداد,حلة, والنجف الاشرف.
وبينت بأن الدار تنظم أيضا رحلات ترفيهية بين حين وآخر, وهناك أيضا دعم صحي من الصحة بخصوص المسنين المصابين بأمراض مزمنة وما شابه.
وما يخص الزيارات وشروط الإقامة قالت الهر: "قليل جدا من يأتي لزيارة ذويه في الدار"
وعن شروط الاقامة اوضحت لنا: "يجب أن يكون عمر المرأة (55) سنة, والرجل ( 60) سنة, وان يكونوا سالمين من الأمراض, وليس له معيل شرعي".
وتابعت حديثها عن الإمكانيات التي تقدمها الدار للمسنين قائلة: "إن الدار توفر( 60) ألف دينار راتب شهري للمعيشة ووجبات غذائية متكاملة, مع الاهتمام بالجانب النفسي للحالة الاجتماعية في حل المشاكل من قبل الباحث الاجتماعي".
مضيفة: "ليس هناك أي معوقات في عملهم سوى ضيق الدار".
ختمت: "انه ليحزنني رؤية البعض منهم يبكون بالخفاء لبقائهم بعيدين عن ذويهم.
وكثيرة الأسف للأبناء الذين قست قلوبهم على أبويهم فتركوهم دون شفقة, او حتى مراعاة لحقوق الوالدين التي أقرت بها الشريعة الإسلامية, فهذا حالهم اليوم.. ولربما يكون حالنا في الغد.. والرأفة بهم واجب عليهم وعلينا، والنظر إليهم بعين الرحمة خير لنا قبل أن يكون لهم، فلا ينبغي أن ننظر إليهم وكأننا نرى شيئاً غريباً عنا مهما بدر منهم من تصرفات غريبة, لأننا في الحقيقة نرى مستقبلنا من خلالهم، وربما يكون حالهم أحسن مما سيؤول إليه حالنا، لذا علينا بالرحمة بهم عسى أن يرحمنا الله يوم نكون في سنهم".
اضافةتعليق
التعليقات