قال الباري تعالى في محكم كتابه: {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِين} الأعراف:40
استوقفتني من تلك الآية العظيمة عبارة "حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ "، فهل يمكن لحيوان كبير بحجم الجمل أن يلج في بؤرة وفتحة إبرة الخياط؟ هذا محال لا يقبله العقل ولا يتبناه المنطق.
ولمعرفة المفاد والمعنى والغاية من ذلك الوصف العظيم المبهر، لابد من الرجوع إلى تفسير وتأويل أهل الذكر والعلم والبيان، ومن عندهم علم وأسرار كل الكتاب، المكنون المبين .
فوجدنا رواياتهم تشير إلى أن هناك أمرًا عظيمًا جعل ملائكة السموات والأرض تستنفر منه، وملائكة السماء السابعة ترفضه ولم تقبله ولم تفتّح له أبوابها، والحور العين وخزنة الجنان لم تتطلع إليه ، فيا ترى ما هو ذلك الأمر العظيم؟ .
جاء في تأويلهم عن ضريس، عن أبي جعفر صلوات الله وسلامه عليه قال: نزلت هذه الآية في أهل الجمل (طلحة والزبير) والجمل جملهم. بيان ذلك: أن أهل الجمل هم الذين كفروا وكذبوا بآيات الله، وأعظم آياته أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) واستكبروا عنها، وبغوا عليها، لا تفتح لهم أبواب السماء، أي لأرواحهم الخبيثة وأعمالهم القبيحة.
وما جاء في تفسير مولانا الإمام أبي محمد الحسن العسكري (صلوات الله وسلامه) قول رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقد حكى لأصحابه عن حال من يبخل في الزكاة. فقالوا له: ما أسوأ حال هذا ؟ فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): أولا انبئكم بأسوأ حالًا من هذا؟ فقالوا: بلى يا رسول الله. قال: رجل حضر الجهاد في سبيل الله تعالى فَقُتل مقبلا غير مدبر، وحور العين يطلعن عليه، وخزان الجنان يتطلعون ورود روحه عليهم، وأملاك الأرض يتطلعون نزول الحور العين إليه والملائكة وخزان الجنان فلا يأتونه.
فتقول ملائكة الأرض حوالي ذلك المقتول: ما بال الحور لا ينزلن؟ وما بال خزان الجنان لا يردون؟ فينادون من فوق السماء (السابعة): أيتها الملائكة انظروا إلى آفاق السماء ودوينها، فينظرون فإذا توحيد هذا العبد، وإيمانه برسول الله وصلاته وزكاته وصدقته وأعمال بره كلها محبوسات دوين السماء قد طبقت آفاق السماء كلها كالقافلة العظيمة قد ملأت ما بين أقصى المشارق والمغارب، ومهاب الشمال والجنوب، وتنادي أملاك تلك الأفعال الحاملون لها الواردون بها: ما بالنا لا تفتح لنا أبواب السماء؟ فتدخل إليها أعمال هذا الشهيد، فيأمر الله عزَّ وجلَّ بفتح أبواب السماء فتفتح. ثم ينادي هؤلاء الأملاك: ادخلوها إن قدرتم. فلم تقلها أجنحتهم ولا يقدرون على الارتفاع بتلك الأعمال فيقولون: يا ربنا لا نقدر على الارتفاع بهذه الأعمال.
فيناديهم منادي ربنا عزَّ وجلَّ: يا أيتها الملائكة لستم حمالي هذه الأثقال الصاعدين بها، إن حملتها الصاعدين بها مطاياها التي ترفعها إلى دوين العرش، ثم تقرها درجات الجنان. فتقول الملائكة: يا ربنا وما مطاياها ؟ فيقول الله تعالى: وما الذي حملتم من عنده ؟ فيقولون: توحيده لك وإيمانه بنبيك.
فيقول الله تعالى: فمطاياها موالاة على أخ نبيي، وموالاة الأئمة الطاهرين، فان أوتيت فهي الحاملة الرافعة الواضعة لها في الجنان. فينظرون فإذا الرجل مع ماله من هذه الأشياء، ليس له موالاة علي والطيبين من آله ومعاداة أعدائهم، فيقول الله تبارك وتعالى للأملاك الذين كانوا حامليها: اعتزلوها والحقوا بمراكزكم من ملكوتي ليأتها من هو أحق بحملها ووضعها في موضع استحقاقها، فتلحق تلك الأملاك بمراكزها المجعولة لها.
ثم ينادي منادي ربنا عزَّ وجلَّ: أيتها الزبانية تناوليها، وحطيها إلى سواء الجحيم، لأن صاحبها لم يجعل لها مطايا من موالاة علي والطيبين من وآله.
قال: فتنادي تلك الأملاك، ويقلب الله عزوجل تلك الأثقال أوزارا وبلايا على باعثها لما فارقتها مطاياها من موالاة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (صلوات الله وسلامه عليهما)، ونوديت تلك الأملاك إلى مخالفته لعلي، وموالاته لأعدائه، فيسلطها الله عزَّ وجلَّ وهي في صورة الأسد على تلك الأعمال، وهي كالغربان والقرقس، فيخرج من أفواه تلك الأسود نيران تحرقها ولا يبقي له عمل إلّا احبط، ويبقى عليه (موالاته لأعداء) علي صلوات الله وسلامه عليه وجحده ولايته فيقر ذلك في سواء الجحيم، فإذا هو قد حبطت أعماله، وعظمت أوزاره وأثقاله، فهذا أسوأ حالا من مانع الزكاة. فاعلم أن كل من كان هذا عمله يكون يوم الميعاد منثورا ويكون ممن قال الله سبحانه فيه (وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا ( الفرقان23) .
إذن نستخلص مما ذكر أعلاه ان جميع أعمال العباد مهما بلغ معيارها ومقدارها ..
لم تكن مقبولة عند الله تعالى إلّا بشرطها وشروطها، ومن شروطها هو الولاية لعلي أمير المؤمنين ولعترته الطاهرة والبراءة من أعدائهما و بدونهما لا يقبل ولا يكمل عمل عامل منكم. وهذا ما يفيد به حديث إمامنا شمس الشموس علي بن موسى الرضا (صلوات الله وسلامه عليه) المعروف بالسلسلة الذهبية (لا إله إلّا الله حصني، فمَن دخل حصني أمن عذابي. فلما مرّت الراحلة نادانا: بشروطها وأنا من شروطها) .
فلنتمسك بهذا الشرط العظيم الذي سخره الله تعالى لقبول أعمالنا ونجاتنا في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون، وندعوه ان لا تزغ قلوبنا عنه بعد ان هدانا إليه.
اضافةتعليق
التعليقات