أثيرت مغالطة تاريخية ممزوجة بجرعات أموية عباسية حول هدنة الإمام الحسن المجتبى صلوات الله وسلامه عليه وعدوه معاوية بن أبي سفيان، حتى ظنها الظان أنها حقيقة، حيث زعم إن الإمام اِعتزل الأمر وترك الحكم لمعاوية، وإنه قد دخل في صلح وهدنة معه لكونه كان مضطرًا ومجبرًا.
لكن الشواهد المنصوصة في كتب الفريقين تثبت غير ذلك، فالصحيح إن سبط رسول الله صلى الله عليه وآله لم يصالح معاوية إطلاقًا، وما بينهما كان سوى هدنة لا بيعة ولا صلح، والهدنة هنا لا تعني ذوبان الكل في الكل، إنما تعني التوافق مؤقتًا على وقف الحرب أو المواجهة، وذلك يتطلب وجود مفاوضات وشروط بين الطرفين، وفي حالة عدم وفاء معاوية ونقضه لشروط الإمام سوف تبدأ المواجهة معه من جديد.
اعتقد معاوية في بداية الأمر إن بإمكانه إشعال الفتنة والاضطراب في صفوف الموالين للإمام الحسن صلوات الله عليه، سيما بين جنوده وجيشه في الكوفة، نظرًا لتعدد الأهواء والآراء وكثرة وجود التيارات المناوئة فيها للإمام ولشيعته؛ الذين كانوا يشكّلون الثلث من المجتمع فقط نسبة إلى غالبية الأطراف الأخرى من "الخوارج" و"النواصب" من أهل الشام؛ الذين كانوا يبغضون أهل البيت صلوات الله عليهم ومحبيهم ، لكنه لم يكن في حسبانه "معاوية" إن الإمام الحسن صلوات الله عليه سوف يسيطر بحنكته وتدبيره على الوضع، وسوف يستدرجه وجيشه بأكمله إلى مدينة الكوفة، وستكون بينهما هدنة يملي عليه كافة شروطه.
استطاع الإمام أن يملي جميع شروطه على معاوية ويلزمه بقبولها رغم أنفه؛ سيما الشروط التي تصب في صالح دين أهل البيت صلوات الله عليهم وشيعتهم، ومن أهمها وأولها أن يكون الحسين بعيدًا عن هذه الصفقة وأن لا يهادن ولا يبايع، وأن يكون الأمر له من بعد أخيه الحسن إن حدث به حدث، وعلى معاوية أن يمتنع عن سب علي أمير المؤمنين صلوات الله عليه والقنوت عليه في الصلاة، وأن لا يذكره إلَّا بخير، وأن لا يتعقب عترته وأصحابه وشيعته بمكروه أينما حلوا .
خاطئٌ من يوصف سيد شباب أهل الجنة بالهدوءِ والحلم والسكينة في تدابيره ومواقفه مع معاوية أثناء عقد الهدنة أو بعدها أو حتى آخر عمره الشريف، دون أن ينظر إلى ما كشفه وعَرّاه صلوات الله وسلامه عليه بخطبه النارية عن مثالب معاوية وأسلافه "بني أمية" وعن فلان وفلان من أهل السقيفة وعدم شرعيتهم في الحكم، وإلى ما ميزه بها من مفارقة بين منهجين، منهج الإيمان منهج "أهل البيت صلوات الله عليهم" ومنهج "بني أمية" الضال، سيما في قوله لمعاوية حينما ذكر (أمير المؤمنين عليه السلام ونال منه، ونال من الحسن عليه السلام ما نال، وكان الحسن والحسين عليهما السلام حاضرين، فقام الحسين عليه السلام ليرد عليه، فأخذ بيده الحسن عليه السلام فأجلسه، ثم قام فقال: أيها الذاكر عليًا أنا الحسن وأبي علي، وأنت معاوية وأبوك صخر، وأمي فاطمة وأمك هند، وجدي رسول الله صلى الله عليه وآله وجدك حرب، وجدتي خديجة وجدتك قتيلة، فلعن الله أخملنا ذكرًا وألأمنا حسبًا، وشرنا قدمًا، وأقدمنا كفرًا ونفاقًا، فقالت طوائف من أهل المسجد: آمين آمين (1). حتى كاد معاوية أن يتفجر من صراحة الإمام، بقوله عن نفسه بما في مضمونه" كدت أفتك بالإمام الحسن لولا سيوف بني هاشم"، وذلك مؤشر على أن الوضع كان بيد الإمام لا بيد غيره.
وأما قول "معاوية" في الناس في مسجد "النخيلة" بالكوفة بعد أن استتمت الهدنة: (إني والله ما قاتلتكم لتصلوا ولا لتصوموا ولا لتحجوا ولا لتزكوا إنكم لتفعلون ذلك، ولكني قاتلتكم لأتأمر عليكم وقد أعطاني الله ذلك وأنتم له كارهون، ألَا وإني كنت منيت الحسن وأعطيته أشياء، وجميعها تحت قدمي لا أفي بشيء منها له) (2) ، ما كان إلّا لغوًا وهراءً من معاوية، يدل على فشله وضعفه أمام قدرات الإمام الحسن وتدابيره، سيما عندما وجد نفسه محصورًا وملزمًا بإملاءات وشروط الإمام، وإنه لا مفر له إلَّا بموافقتها. وهنا ثارت ثائرته وانتفضت أوداجه حتى شك في خيانة أقرب سواعد جيشه" عمرو بن العاص" وأوشك على قتله؛ لما أشار عليه.. بفكرة "الصلح" و"الاتفاق".
ومن الخطأ اعتقاد أن الإمام صلوات الله عليه أثناء الهدنة جرّد نفسه من كل شيء وسلّم كل الأمور بقضها وقضيضها بيد معاوية، بل على العكس حافظ الإمام على قوته وقوة جنده ومعسكره ولم يفرط فيهما، فقد استخلص منهم المحبين والمخلصين له دون المناوئين والمنقلبين، فقوة الإمام ومعسكره هي التي قصمت ظهر معاوية وأرضخته لقبول شروط الإمام وأمسكت بيده لا حلمه وورعه كما يَزعم.
لذلك لم يتجرأ "ابن أبي سفيان" ولمدة عشر سنوات من "زمن دولة الإمام الحسن"، ولم يتعرض بمكروه لأصحابه وأصحاب أبيه أمير المؤمنين رضوان الله عليهم وشيعتهما، أما قتله لبعضهم أمثال الصحابي حجر بن عدي فقد جاء ذلك بعد رحيل الإمام واستشهاده .
لم يحتمل معاوية عظمة قدرات الإمام الزكي صلوات الله عليه، فتوسل "بعمر بن العاص" لاغتياله، خوفًا إنه لو بقي الإمام أكثر من عشر سنين، لازداد عدد محبيه ومناصريه، ولأصبح "ابن هند" في خبر كان.
تلك قراءة متواضعة لبعض ما أثير من شبهات حول هدنة الإمام المجتبى صلوات الله عليه، فلنجتهد جميعًا على نصرة ظلامته، وكشف ما دُسّ في سيرته ومنهاجه، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}(3).
اضافةتعليق
التعليقات