عندما يكلّفنا المولى يخاطبنا بنداء يلمس شغاف قلوبنا، ويرفع معنويتنا، ويجعلنا على استعداد تام لتقبّل التكليف وبكل رضا وانشراح: { يا أيها الذين آمنوا }؛ لذا يقول الإمام الصادق عليه السلام: (لذة ما في النداء - أي يا أيها الذين آمنوا - أزال تعب العبادة والعناء) .
فالمنادي هو الله تعالى بكل عظمته ورحمته، وحكمته، والمنادى نحن بكل ضعفنا، وأهوائنا، وشهواتنا، ولكنه ينادينا بلطف وحنان، وبعنوان محبب يملأ القلب بالسرور، ويخفف عنا المشقة، ويهيئ الأرضية الصالحة في داخلنا للانقياد والطاعة .
وإذ يكلفنا المولى فهو -بلطفه- يبين لنا فلسفة هذا التكليف الذي ينطوي على بعض الصعوبة والعناء، ويوضح لنا ما يعود به علينا من منافع، لتكون هذه العبادة محبوبة لنفوسنا نؤديها بسعادة وإقبال، ونسعى إليها تطوّعا فضلا عن الوجوب؛ { لعلّكم تتقون } .
نعم التقوى تلك الثمرة الشهية التي يمنحها لنا الصوم، فما من شيء مثل الصوم يربّي ملكة التقوى في الروح، ويمنحها القدرة على حفظ النفس وصيانتها من الوقوع في المعصية والإثم، فالصوم هو المدرسة الأولى بلا منازع التي تمنح الإنسان شهادة رفيعة المستوى تسمى (التقوى) ولكن بشرطها وشروطها!
فلكي لا نكون مصداقا لقول الرسول عليه السلام: (كم من صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش )، علينا أن نعي قيمة الهدف، ونسعى إليه بكل جهدنا، فما قيمة صوم لا يمنحنا التقوى؟ وما نفع أيام تمضي ونحن ساهون، غافلون يتحكّم بنا هاجس الجوع فلا نفكر إلا بوحي موائد إفطارنا العامرة، وخيالات تخمتنا ! متناسين مقدار جوع وضمأ أرواحنا وما أصابها من هزال وضمور !!
الكثير من الناس -وللأسف- حوّلوا شهر رمضان بكل قدسيته، وباعتباره أهم المواسم والمحطات العبادية التي تعيد بناء الإنسان المؤمن وترمّمه من جديد حوّلوه إلى مناسبة شعبية تراثية، يستعدون لها بشراء مستلزمات كمالية صنعت لكي تستنزف الإنسان ماديا، وتلهيه عن أهمية المناسبة وقداستها!
فما علاقة الشهر الفضيل -حيث أنفاسنا فيه تسبيح، ونومنا عبادة- بالفوانيس الرمضانية، والأواني المنقوشة بصور الهلال، وبالزينة الضوئية والوسائد الرمضانية التي تذكرنا بالوسائد الحمراء الخاصة بالفلانتاين، وكأن هناك من يريدنا أن نعيش في دوامة اللوازم الكمالية، فما أن تنتهي مناسبة يغرقون فيها أسواقنا بتلك السلع حتى يخترعون لنا أخرى؛ فابتعوا لنا بدعة الركن الرمضاني في البيوت لنملأه بأمور ما أنزل الله بها من سلطان، تلهينا، وترهق جيوبنا .
ولا ننسى الأوقات الضائعة بالمسلسلات التلفزيونية التي حُشِدت عمدا في هذا الشهر، والكم الهائل من وصفات الطبخ والحلويات، وما تتطلبه من ساعات طويلة تقضيها المرأة في المطبخ لإعدادها، وكأن الناس تنتظر هذا الشهر المبارك لتأكل بعد جوع عام كامل!
وللأسف تكون المرأة -عادة- الخاسر الأكبر في هذا الشهر مابين سوق ومطبخ، دون أن تستعد لتكون الرابح الأكبر مابين صلاة، ودعاء، وتلاوة .
شهر رمضان شهر مبارك، فيه ليلة واحدة تعادل ألف شهر، وموائد الرحمن ممتدة بلا حدود تدعونا للضيافة، فيه فيوضات لا تنتهي، ورحمة أبى مانحها إلا أن يفيضها على عباده بسخاء، فما علينا سوى أن نمدّ أيدينا الموسومة أبدا بالفقر والحاجة لتُملأَ بفيض الكرم والعطاء .
شهر رمضان يطرق أبوابنا كل عام ضيفا كريما حاملا معه هداياه، وتحفه، لكنه دائما على عجل؛ ساعاته المباركة تمضي مسرعة فعلينا أن لا نتركها تتسلل من بين أيدينا بغفلة دون أن نعانقها، نتوحّد بها، دون أن ننتشي بروعة اللقاء، ونسمح لأنواره المقدسة أن تضيء جوانب أرواحنا المتعبة، وأن نفرح بهداياه التي حملها لنا بكل حب وسخاء .
علينا أن لا ندع الشهر الكريم يرحل من ديارنا حزينا يتساءل بأسى: ما بال القوم لا يحسنون إكرام الضيف؟!
اضافةتعليق
التعليقات