في مناجاة الخائفين الامام السجاد (عليه السلام) يوجه بوصلة خوفنا إلى ما يجعله خوفا ممدوحا، وذو آثار إيجابية في حياتنا على المستوى الدنيوي المادي والمعنوي، وبالتالي البلوغ الآمن على المستوى الأخروي الذي هو أقصى غايات عباد الله الذين يعيشون لرؤية حقائق إيمانهم وتقواهم في الحياة الأخرى.
فما دام الانسان في هذه الحياة الدنيا هو في خطر ولابد أن يعيش الخوف من أن يفقد استقامته، أو أن ينحرف في مسيره؛ إذ إن إستشعاره لهذا الخطر هو في ذات الوقت هو الأمان الحقيقي له ليثبت (فمن لا يخاف هو على خطر في حقيقة الأمر).
ففي بداية المناجاة يُبين لنا الامام (عليه السلام) المنجيات من الوقوع بالخيبة الحقيقية بقوله:(حَاشَا لِوَجْهِكَ الكَرِيمِ أَنْ تُخَيِّبَنِي!) وذلك على المستوى الفكري/ الإعتقادي وهي:
كما في هذه الفقرة بقوله: "إِلهِي أَتُراكَ بَعْدَ الإِيمانِ بِكَ تُعَذِّبُنِي"، فالخوف من الوقوع بالعذاب الإلهي يزيله تحقيق الإيمان بالله تعالى.
ثم يقول: "أَمْ بَعْدَ حُبِّي إِيَّاكَ تُبْعِّدُنِي"، هنا الخوف من البُعد والسعي لبلوغ القرب الذي به يتحقق الأمان يُحققه الحب ومقدار تعميقه في القلب وترك التعلق بغير الله تعالى.
وبعد ذلك يذكر المنجية الثالثة بقوله: "أَمْ مَعَ رَجائِي لِرَحْمَتِكَ وَصَفْحِكَ تَحْرِمُنِي" فالخوف من عدم الشمول برحمة الله بتحقيق الرجاء وحسن الظن بالله تعالى وبإدراك سعة عفوه ليس على مستوى إسقاط الذنوب بل الصفح أي إزالته من صحيفة أعماله، يوجب حالة الأمن النفسي ليبدأ من جديد.
ثم يشير بقوله: (لَيْتَنِي عَلِمْتُ أَمِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ جَعَلْتَنِي، وَبِقُرْبِكَ وَجِوَارِكَ خَصَصْتَنِي، فَتَقِرَّ بِذلِكَ عَيْنِي وَتَطْمَئِنَّ لَهُ نَفْسِي)، فهذا الهاجس والهم إذا ما عاشه الانسان وتحول إلى تساؤل دائم يجعل الخوف بمثابة الحصن الذي به يبلغ السعادة، والحافظ له للوقوف عند حدود العبودية، والمحقق في نفسه الطاعة والامتثال لأوامر ونواهي معبوده، وبالتالي يجعله من أهل العمل حتى يحقق مبتغاه وهو الرجوع لله بنفس مطمئنة، فيرى ثمار أعماله فتقر بذلك عينه.
لذا الامام (عليه السلام) بَين السُبل الموجبات لبلوغ الأمن على مستوى الأفعال (العملي/ السلوكي) مع الله تعالى وذلك:
عَبر السجود، كما في قوله: "إِلهِي هَلْ تُسَوِّدُ وَجُوهاً خَرَّتْ سَاجِدَةً لِعَظَمَتِكَ" فالخوف من أن يسود وجه العبد فلا يكون مقبول عند مولاه ينتفي بالسجود أي بتحقيق الخضوع والتواضع لله تعالى، ليكون من أهل الأمن كما في قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ}(عبس:38).
والثناء على هذا الرب الكريم باللسان كما في قوله: "أَوْ تُخْرِسُ أَلْسِنَةً نَطَقَتْ بِالثَّناءِ عَلَى مَجْدِكَ وَجَلالَتِكَ" موجبة للسماح للعبد بمناجاته؛ والسماح له بذلك يوجب بدءًا تذوق حلاوة طعم الحديث مع الله، وموجب لتحقيق الأمان في النفس.
والقلب المنطوي بمحبة الله تعالى كما في قوله: "أَوْ تَطْبَعُ عَلَى قُلُوبٍ انْطَوَتْ عَلَى مَحَبَّتِكَ"، فالتعلق به سبحانه موجب لإنفتاح القلب وإستقباله لفيض الله تعالى وإستقرار انوره ورحمته فيه، وهل لقلب كهذا أن يدخله الخوف (أي خوف الوقوع في الظلمات؟!).
والإذن الواعية المصغية لكلام الله تعالى وكل ما فيه ذكره وتذكره هي موجبة للعيش بأمان في الدنيا، والآخرة بما يوافق ارادة الرب، كما في قوله: "أَوْ تُصِمُّ أَسْماعاً تَلَذَّذَتْ بِسَمَاعِ ذِكْرِكَ فِي إِرادَتِك".
وبسط الكف لله تعالى بالتوجه اليه والطلب منه، كما في قوله: "أَوْ تَغُلُّ أَكُفّاً رَفَعَتْها الآمالُ إِلَيْكَ رَجاءَ رَأْفَتِكَ" لأنه منتهى الآمال وموطن العطاء، وهذا يوجب عدم الخوف من أن تغل أيد الأنسان، كما يحصل مع المجرمين كما في قوله تعالى: {وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ} (إبراهيم: 49).
وتسخير البدن كما في قوله: "أَوْ تُعاقِبُ أَبْدَاناً عَمِلَتْ بِطاعَتِكَ حَتَّى نَحِلَتْ فِي مُجاهَدَتِكَ"، وببذل ما فيه من عافية وطاقة في سبيل طاعة الله وخدمة عباده موجب للأمن من عقاب الله تعالى.
والسعي على مستوى المسارعة في أداء العبادات موجبة للأمن من العذاب الالهي، كما في قوله: "أَوْ تُعَذِّبُ أَرْجُلاً سَعَتْ فِي عِبادَتِكَ؟".
بالنتيجة الإمام (عليه السلام) وضع علامات تحقق حالة التوازن بين وجود حالة الخوف في النفس وتحقق الأمان فيها ولها عَبر الأفعال القلبية والبدنية في عالم الدنيا لتتحقق رؤاها في الدنيا ورؤية ثمارها التامة المنجية في الأخرة، وبها صرف للنفس عن مواطن الخوف الوهمية التي يعيشها أهل الدنيا.
اضافةتعليق
التعليقات