خلقت الطبيعة البشرية بغرائز عجيبة، تعزز لها البقاء والحماية والتكيف مع المحيط الذي تعيش فيه، وتبارك الله أحسن الخالقين اذ جعل لكل غريزة هدف معين من أهمها إشباع حوائج الانسان، مثل غريزة الأكل والشرب والتكاثر وغيرها كل تلك الغرائز مكملة لبعضها لتصب في قناة واحدة وهي إعمار الكون.
ولكل غريزة لها حد معين يمنع تفريطها، إذ كما قيل في المثل [كل شيء إن زاد عن حده إنقلب ضده]١.
فالجوع مقابله الشبع فإذا زاد عن الشبع أصبح الوضع خطير اذ دخل الانسان في متاهة الشراهة ومن ثم في خطر السمنة والوقوع في فخ الامراض!، ومن غرائز الانسان العجيبة (الغنى) اذ يحاول دائماً الوصول للكمال في جميع مجالات الحياة ليغدو غنيا وبذلك يحصل على الراحة والاستقرار.
وإن تعددت الالقاب والأسماء فجميعها وجوه لعملة واحدة وهي (الفقر). وعندما أذكر الفقر لا أقصد الفقر المادي أو الأموال، بل الفقر في جميع الأمور مثل فقر العلم والصحة والقناعة والطموح وكذلك في الصداقة.
فـ فقير العلم يسمى جاهل، وفقير الصحة سقيم وفقير الارادة عاجز وفقير القناعة بخيل وفقير الطموح كسول وفقير الصديق غريب.
لا أحد يحب الفقر بكافة مسمياته بل الجميع يحاول جاهداً أن يفر منه كالفرار من الضبع المسعور! ولكن هناك غنى مذموم بل هو الهلاك بعينه.. وهو الغنىٰ عن الله عزوجل.
إن من أسمى حالات العبودية الخالصة لله عزوجل هي الفقر والعجز والتذلل لجبّار السماوات والأرض، حيث إن الانسان مهما بلغ من الكمال الدنيوي فهو عاجز كلياً لله تعالى، وبمجرد أن يشعر المرء إنه معتمد على نفسه وإنه قادر فوراً يسقط في قعر الضياع والهلاك!. وينساق إلى وادي الجبروت والطغيان حتى يصل به الحال كما وصل إلى فرعون ونمرود.
والتاريخ مليء بتلك النماذج منها بلعم بن باعوره الذي كان لديه الإسم الأعظم ولكن بمجرد أن شعر بالغنى والقدرة انكب على وجهه في نار جهنم وخسر الدنيا والآخرة.
وكذلك قارون وهو من حواري نبي عظيم من أنبياء أولي العزم وهو سيدنا موسى على نبينا وآله وعليه أفضل الصلاة والسلام، وذو قرابة ونسب وكان يصلي خلف نبي الله ولكن بمجرد أن شعر بالاكتفاء فوراً نكث ميثاق الله عندما طلب منه إخراج حق الله والفقراء رفض و[قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِي]٢، فما كان جزاءه إلاّ الهلاك والخسف وأصبح عبرة إلى يوم يبعثون.
عندما نتمعن بأدعية أهل البيت صلوات الله عليهم نجدها ترتكز على أساس واحد وهو التضرع لله بحالة من الفقر والذل والمسكنة، ولاسيما ونحن في شهر التضرع والتوسل لله عزوجل وهو شهر الرحمن نجد من أبرز أعمال هذا الشهر هو الدعاء والتضرع والتوسل لله بل التملق بكل انكسار وخشوع.
وكلما تدبرنا معاني كلمات هذه الأدعية مثل دعاء أبي حمزة الثمالي ذلك الصحابي الجليل لسيدنا الامام علي بن الحسين زين العابدين صلوات الله عليهم المنسوب له حيث قال عليه السلام: [سَيِّدي عَبْدُكَ بِبابِكَ أقامَتْهُ الْخَصاصَةُ بَيْنَ يَدَيْكَ يَقْرَعُ بابَ اِحْسانِكَ بِدُعائِهِ، فَلا تُعْرِضْ بِوَجْهِكَ الْكَريمِ عَنّي، وَاَقْبَلْ مِنّي ما اَقُولُ، فَقَدْ دَعَوْتُ بِهذَا الدُّعاءِ وَاَنا اَرْجُو اَنْ لا تَرُدَّني، مَعْرِفَةً مِنّي بِرَأفَتِكَ وَرَحْمَتِكَ، اِلهي اَنْتَ الَّذي لا يُحْفيكَ سائِلٌ، وَلا يَنْقُصُكَ نائِلٌ، اَنْتَ كَما تَقُولُ وَفَوْقَ ما نَقُولُ]٣.
وكذلك في دعاء الافتتاح: [اَلْحَمْدُ للهِ الَّذي يَخْلُقُ وَلَمْ يُخْلَقْ، وَيَرْزُقُ وَلا يُرْزَقُ، وَيُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ، وَيُميتُ الاَحياءَ وَيُحْيِي الْمَوْتى وَهُوَ حَيٌّ لا يَمُوتُ، بِيَدِهِ الْخَيْرُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْء قَديرٌ] ٤، وكذلك: هذا مَقامُ الْبائِسِ الْفَقيرِ، هذا مَقامُ الْخائِفِ الْمُسْتَجيرِ، هذا مَقامُ الَمحْزُونِ الْمَكْرُوبِ، هذا مَقامُ الْمَغْمُومِ الْمَهْمُومِ، هذا مَقامُ الْغَريبِ الْغَريقِ، هذا مَقامُ الْمُسْتَوْحِشِ الْفَرِقِ، هذا مَقامُ مَنْ لا يَجِدُ لِذَنْبِهِ غافِراً غَيْرَكَ، وَلا لِضَعْفِهِ مُقَوِّياً اِلاّ اَنْتَ، وَلا لِهَمِّهِ مُفَرِّجاً سِواكَ]٥.
جميع تلك الادعية الشريفة نجدها تترنم بخضوع تام وبيان حال الامام المعصوم وهو حجة الله وهو في حالة تضرع وتذلل وخشوع لرب العباد خالق الخلق، فكيف يجب أن يكون حالنا ونحن الغارقين في الذنوب والمعاصي؟!.
لذلك علينا أن لا نقع في فخ الاستغناء والاكتفاء وأن لا ننسى حقيقة عجزنا وافتقارنا لله الغني القدير الرازق القوي وأن نبتهل بالدعاء والتوسل لله بأن نكون له من عباده الفقراء المساكين المتذللين له ولا يكلنا إلى انفسنا الأمارة بالسوء والجحود كما كانت صلوات الله عليها سيدة نساء العالمين مولاتنا الزهراء في تتوسل بدعائها "اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين أبداً فأهلك".
اضافةتعليق
التعليقات