قال الله تعالى: (وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم).
النكاح من سنن الله تعالى في عباده، والمقصود منه التناسل والتكاثر تحت ظل القانون الإلهي، وليس الهدف منه إشباع الغريزة الجنسية فقط بل هو في ضمنه وإنما هو كالحصن يحفظ الإنسان من فساد الخـلاعــة وويلات الفجور .
والهدف الأسمى من النكاح هو: تأسيس بيت عائلي لتكوين جيل يربط الوالدين يتقبل المسؤوليات التي يتطلبها الجيل من بدء إيجاده إلى أن يقطع أدوار الحياة، وأطوارها من جنين ووليد ورضيع وفطيم وصبي وغلام ومراهق وشاب ويافع، أو بنت وشابة وفتاة وامرأة .
فالنسل بحاجة ماسة في أدواره إلى الكفيل والمربي والمنفق والمؤدب والولي، إلى جانب حاجته إلى الرضاعة والحضانة والتربية والعناية والخدمة وتأمين لوازم الحياة من المأكل والملبس والمسكن والتعليم وما شابه ذلك ولا يندفع أحد إلى تحمل هذه المسؤوليات كما يندفع الوالدان، ولا أظن أني أحتاج في هذا البحث إلى إقامة الدليل والبرهان.
فهل تكون المرضعة كالأم؟
وهل الموظفات في دور الحضانة والروضات يسهرن الليالي للطفل المريض كما تسهر الأم الحنون؟
وقد قيل: ليست الثكلى كالمستأجرة، فهناك فرق كبير وبون شاسع بين من يندفع للعناية والرعاية بالأطفال بدافع الأبوة والعاطفة والمحبة التي لا يكدرها شيء، وبين من يتحمل مسؤولية بدافع الراتب والوظيفة وإدراك أهمية هذا الموقف كثيراً ما يحول بين الوالدين وبين إجابة رغبات الأولاد وتحقيق هواياتهم التي لا تسمن ولا تغني من جوع، فالإرتباط بالعائلة يدفع الإنسان إلى التفكير حول تأمين حياته والخوض في معركة العمل المثمر والإنتاج المفيد، وفي الوقت نفسه يردعه عن كل مجازفة تهدد كيانه وحريته وتعرقل عليه المساعي كالإقدام على جريمة القتل أو ارتكاب الجنايات التي تؤدي إلى شقاء الوالدين وإن هذه الأحزاب والمبادىء التي استولت على الشباب واستنزفت منهم كل نشاط وطاقة لم تنجح إلا بعد أن تقهقرت سُنَّة الزواج بين المسلمين، وكثر عدد العزاب والبطالين الذين لا تربطهم بالحياة البيتية والعائلية أية رابطة أو مسؤولية.
ولعل الحديث المروي عن الإمام الصادق (عليه السلام) يشير إلى هذا الموضوع حيث قال عليه السلام: (من تزوج فقد أحرز نصف دينه فليتق الله في النصف الآخر).
هذا والبحث طويل والكلام يحتاج إلى تفصيل، وقد ذكرنا هذه المقدمة لحديثنا عن العراقيل والمشاكل التي سدَّت على شبابنا طرق الزواج وجعلتهم يهابون النكاح ولا يهابون السفاح، ويفضلون الكبت والضغط (على غرائزهم) أو يرجحون الفساد على انتخاب زوجة تشاركهم حلو الحياة ومرها وأفراحها وأحزانها. هذه العراقيل كانت موجودة في الجاهلية ولكن بصورة أخرى كغلاء المهر والعصبيات القبلية وما شاكلها، فتكونت عندهم الأزمات بجميع أقسامها، واشتدت الحالة حتى أدت إلى دفن البنات وهن في قيد الحياة، قال تعالى: (وإذا الموؤدة سئلت بأي ذنب قتلت).
فكان من جملة الخطوات الإصلاحية التي قام بها الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) هو القضاء على هذه العادات الجهنمية والتقاليد الجاهلية التي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ويُحل لهم الطيبات ويُحرم عليهم الخبائث، ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم .
ولم يكتف الرسول الأقدس الله بمكافحة هذه السيئات عن طريق اللسان فالكلام وحده لا يجدي، وإنما قام الرسول بفك هذه الأغلال عن طريق العمل.
فمن جملة ذلك: أنه زوج إبنته الطاهرة سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء الى بأبسط ما يمكن، وتجسم التساهل في ذلك الزواج المبارك بخفة المؤونة وانتهاء الأمر بكل بساطة بعيداً عن التكاليف المجهدة المتعبة التي يفر من شبحها الشباب المغلول بسلاسل التقاليد ويفضل العزوبة على الزواج المقرون بالمشاكل ، وإليكم الواقعة :
لما أدركت فاطمة بنت رسول الله الله مدرك النساء خطبها أكابر قريش من أهل الفضل والسابقة في الإسلام، والشرف والمال، وكان كلما ذكرها من قريش لرسول الله صلى الأعرض عنه رسول الله بوجهه، حتى كان الرجل منهم يظن في نفسه أن رسول الله فيه وحي من السماء .
ولقد خطبها من رسول الله الله أبو بكر، فقال له رسول الله: أمرها إلى ربها ، وخطبها بعد أبي بكر عمر بن الخطاب، فقال له رسول الله كمقالته لأبي بكر ...
فجاء أبو بكر وسعد بن معاد إلى علي السلام، وهو خارج المدينة يسقي نخلا له، وسألاه عما يمنعه عن خطبة فاطمة الى فقال لهما علي: ما يمنعني إلا الحياء وقلة ذات اليد (المال) فقال له سعد: إذهب إلى رسول الله واخطب منه فاطمة، فإنه يزوجك ، والله ما أرى رسول الله يحبسها إلا عليك. فقال علي : فأقول ماذا ؟ فقال سعد
تقول: جئت خاطباً إلى الله ورسوله فاطم بنت محمد، فأقبل علي علية السلام يقصد دار النبي، وهبط جبرئيل على الرسول وأخبره، بمجيء علي ، وكان رسول الله صلى الله في دار ام سلمة، فدق علي الباب، فقالت أم سلمة: من بالباب ؟ فقال لها الرسول من قبل أن يقول علي أنا: قومي يا أم سلمة فافتحي له الباب ، ومُريه بالدخول، فهذا رجل يحبه الله ورسوله ويحبهما.
فقالت أم سلمة : فداك أبي وأمي، ومن هذا الذي تذكر فيه هذا وأنت لم تره؟ فقال: يا أم سلمة ، فهذا رجل ليس بالخرق ولا بالنزق هذا أخي وابن عمي وأحب الخلق إلي، فقامت أم سلمة وفتحت الباب وإذا هو علي بن ابي طالب، قالت ام سلمة: والله ما دخل حين فتحت الباب حتى علم أني رجعت إلى خدري ، ثم دخل على رسول الله الله فقال : السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته . فقال النبي : وعليك السلام إجلس فجلس علي ، وجعل ينظر إلى الأرض، كأنه قصد لحاجة وهو يستحي أن يبديها، فهو مطرق إلى الأرض حياء من رسول الله على فقال النبي : إني واله وسلم أرى أنك أتيت لحاجة، فقل ما حاجتك؟ وأبد ما في نفسك فكل حاجة لك مقضية فقال علي: فداك أبي وأمي، إنك لتعلم أنك أخذتني من عمك أبي طالب ومن فاطمة بنت أسد وأنا صبي وغذيتني بغذائك وأدبتني بأدبك ، فكنت إلي أفضل من أبي طالب ومن فاطمة بنت أسد في البر والشفقة ، وأن الله تعالى هداني بك وعلى يديك وأنت (والله) يا رسول الله ذخري وذخيرتي في الدنيا والآخرة .
يا رسول الله : فقد أحببت مع ما شد الله من عضدي بك أن يكون لي بيت وأن يكون لي زوجة أسكن إليها، وقد أتيتك خاطباً راغباً، أخطب إليك
إبنتك فاطمة ! فهل أنت مزوجي يا رسول الله ؟
فتهلل وجه رسول الله فرحاً وسروراً ، ثم تبسم في وجه علي وقال: فهل معك شيء أزوجك به؟ فقال علي: فداك أبي وأمي ، والله ما يخفى عليك من أمري شيء، أملك سيفي ودرعي وناضحي البعير (الذي يحمل عليه الماء) وما لي شيء غير هذا . فقال رسول الله الا الله يا علي أما سيفك فلا غنى بك عنه ، تجاهد به في سبيل الله وتقاتل به أعداء الله وناضحك تنضح به على نخلك وأهلك، وتحمل عليه رحلك في سفرك ولكني قد زوجتك بالدرع.
ورضيت بها منك يا علي أبشرك؟
فقال: نعم فداك أبي وأمي، بشرني فإنك لم تزل ميمون النقيبة، مبارك الطائر ، رشيد الأمر، صلى الله عليك فقال له: إبشر فإن الله قد زوجكها في السماء من قبل أن أزوجك في الأرض .. إلى آخر کلامه.
ثم قال: يا علي إنه قد ذكرها قبلك رجال فذكرت ذلك لها فرأيت الكراهة في وجهها ولكن على رسلك حتى أخرج إليك فدخل عليها فقامت فأخذت رداءه ونزعت نعليه وأتته بالوضوء فوضئته بيدها وغسلت رجليه ثم قعدت فقال لها: يا فاطمة فقالت: لبيك ما حاجتك يا رسول الله ؟ قال: إن علي بن أبي طالب من قد عرفت قرابته وفضله وإسلامه وإني قد سألت ربي أن يزوجك خير خلقه وأحبهم إليه وقد ذكر عن أمرك شيئاً فما ترين ؟ فسكتت ولم تول وجهها ولم ير فيها رسول الله الا كراهة ، فقام وهو يقول: الله أكبر، سكوتها إقرارها، فمضى علي إلى المسجد ، وجاء رسول الله في أثره، وفي المسجد المهاجرون والأنصار، فصعد رسول الله صلى الله ل على درجة من المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال : معاشر المسلمين إن جبرئيل أتاني آنفاً فأخبرني عن ربي عز وجل أنه جمع الملائكة عند البيت المعمور وأنه أشهدهم جميعاً أنه زوج أمته فاطمة بنت رسول الله من عبده علي بن أبي طالب.
وأمرني أن أزوجه في الأرض وأشهدكم على ذلك، ثم جلس وقال لعلي : قم يا أبا الحسن فاخطب أنت لنفسك: فقام وحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي الله وقال: الحمد الله شكراً لأنعمه وأياديه ، ولا إله إلا الله شهادة تبلغه وترضيه ، وصلى الله على محمد صلاة تزلفه وتحظيه، والنكاح مما أمر الله عز وجل به ورضيه ، ومجلسنا هذا مما قضاه الله وأذن فيه ، وقد زوجني رسول الله إبنته فاطمة، وجعل صداقها درعي هذا وقد رضيت بذلك فاسألوه واشهدوا فقال المسلمون الرسول الله مل الله زوجته يا رسول الله ؟ فقال : نعم . فقالوا بارك الله لهما شملهما. وانصرف رسول الله إلى أزواجه وأقبل فقال: يا علي انطلق الآن فبع درعك وأتني بثمنه حتى أهيىء لك ولإبنتي فاطمة ما يصلحكما قال علي: فانطلقت فبعته بأربعمائة درهم سود هجرية وقيل بأربعمائة وثمانين أو خمسمائة من عثمان بن عفان فلما قبضت الدراهم أقبلت إلى رسول الله وطرحت الدراهم بين يديه، فدعا رسول الله الله بأبي بكر فدفعها إليه وقال: اشتر بهذه الدراهم لإبنتي ما يصلح لها في بيتها.
ثم قال: يا علي هذه فاطمة وديعتي عندك، ثم قال النبي: اللهم إجمع شملهما، وألف بين واله وسلم قلوبهما، واجعلهما وذريتهما من ورثة جنة النعيم، وارزقهما ذرية طاهرة طيبة مباركة، واجعل في ذريتهما البركة واجعلهم أئمة يهدون بأمرك إلى طاعتك ويأمرون بما يرضيك، اللهم إنهما أحب خلقك إلي، فأحبهما واجعل عليهما منك حافظاً وإني أعيذهما بك وذريتهما من الشيطان الرجيم.
ثم خرج إلى الباب وهو يقول: طهركما وطهر نسلكما، أنا سلم لمن سالمكما، وحرب لمن حاربكما، أستودعكما الله، وأستخلفه عليكما.
من كتاب (الامام علي من المهد الى اللحد) للسيد محمد كاظم القزويني
اضافةتعليق
التعليقات