ماذا يخطر في بالك عندما تسمع أو تقرأ كلمة "التبسيط"، ينظر الكثيرون بطبيعتهم إلى هذه الكلمة نظرة إيجابية، لأنهم قد عانوا من تعقيدات الحياة، ابتداءًا من إرشادات التشغيل الكبيرة الحجم التي من المفترض أن تشرح لهم طريقة استخدام جهاز هاتفهم الخلوي وتسهلها، وصولاً إلى آليات الاقتصاد العالمي التي لا يفقهون منها شيئا والتي أدت إلى خسارتهم أموالهم في سوق البـورصـة.
على الرغم من زعم أصـدقـائهم المتكرر أن الأمر بالغ السـهـولة ومـضـمـون جـداً وأن بإمكانهم أن يصـبـحـوا من الأغنياء إذا مـا تاجـروا بأسهم البورصة! أولئك الذين يشعرون داخلياً بقيمة "التبسيط". يعانون في الأصل من ضغوط تمارسها عليهم بيئتهم تدفعهم لأن يحصلوا على المزيد وأن ينجزوا المزيد وأن يظهروا المزيد باستمرار: إنهم لا ينظرون إلى العرض الوفير في المخازن التجارية الكبيرة باعتباره فرصة سانحة أمامهم ليختاروا منها بسهولة وحرية ما يحـتـاجـون إليـه، بل باعـتـبـاره عـبـنـا يثقل کاهلهم ويضغط عليهم لشراء ما هم ليسوا بحاجة إليه.
ولا شك في أنهم يعانون أيضاً من متطلبات العمل المتزايدة باستمرار ومن التهديد ـ المعلن أو المبطن: «إمـا أن تلبي جميع المتطلبات، وإما سنطردك من العمل. تلك كانت رؤية البعض الإيجابية لكلمة التبسيط، بيد أن البعض الآخر يسارع لدى سماعه هذه الكلمة إلى الاستغراب والتساؤل: «لماذا علي أن أبسط حياتي؟!.. ويشعر بأن الأخذ بنصيحة الحياة الأبسط والأكثر سعادة يرتب عليـه أعباء إضافية متسائلاً: «أ ليس هناك من مـخـرج يوفر علي تعلم هذا المبدأ الجديد أيضاً الذي سيضاف إلى كل ما تعلمته حتى الآن في حياتي ودون جدوى ؟!
تذكرنا هذه المقاربة للمـوضـوع بإحـدى فكاهات الفنان الكوميدي الألماني هربرت هيزل Herbert Hiesel من مدينة نورنبرغ الذي يقول بلسان رجل بدين وصف له الطبيب حمية غذائية: « إن زوجتي طاهيـة مـاهرة تطهو لي أطايب الطعام، فلماذا علي أن أكل فوق كل ذلك ما تتضمنه هذه الحمية الغذائية؟..
وحتى عندما يفرض عليك طريق التبسيط الكثير من الأمور الواجب الالتزام بها ويقدم لك الكثير من النصائح ولوائح العمل التي يصفها بأنها ضرورية للنجاح، فإن كل تلك الواجبات والنصائح واللوائح تقوم في جوهرها على الامتناع عن فعل شيء ما هو في الغالب مُضنِ ومتعب؛ فطريق التبسيط سيريحك في المحصلة لأنه من حيث المبدأ يعارض فـرض المطالب ويدعم التحرر من جميع الضغوط الخارجية: إنه يعرض عليك حل مشكلة التعقيد ولا يطلب منك سوى ما أنت قادر على فعله بالفطرة، فالإنسان من حيث المبدأ كائن فُطر على البساطة لا على التعقيد، وإذا ما راقبت سلوك القردة، تلك الحيوانات الأقرب في تطورها إلى الإنسان، وهي في حديقة الحيوانات أو في البرية، فستكتشف بكل تأكيد تلك المقدرة المتميزة لدى القردة على التسكع واللهـو وعدم فعل أي شيء لساعات طوال في اليوم الواحد: وبعبارة أخرى فإن طريق التبسيط لا يتطلب في جوهره أكثر من الكينونة الصرفة.
البساطة إحدى حاجات الإنسان الأساسية
من الغرابة بمكان أن غـالـبـيـة النشاطات المعـقـدة والابتكارات والرغـبـات والمطالب التي تملأ حياتنا المعاصرة إنما تنبع من الحاجة الأساسية إلى البساطة المتمثلة بالرغبة في الاسترخاء وعدم القيام بأي عمل؛ فالكل يسعى إلى كسب المزيد من المال من أجل توفير مبلغ منه يشكل ضمانًا لحياة مريحة في خريف العمر يملؤها الاستمتاع بالمرح والاسترخاء وعدم الحاجة إلى فعل شيء؛ كما يسعى المرء لإشادة بيت جميل وسط حديقة خضراء لكي يستريح بعد عناء البناء والتجهيز على أريكته أو في حديقته مرتاح الفكر والبال: ولا شك في أن آلة جلي الأواني المعقدة قد تم اختراعها وتطويرها بغية إراحة الإنسان وإفساح المجال أمامه لكي يقضي وقته في أمور أكثر راحة واسترخاء من الوقوف أمام المجلى وتنظيف الأواني والقـدور؛ كـمـا إن إنشاء البلديات والدوائر الحكومية المعنية بالتشييد والتعمير إنما جاء بقصد تنظيم السكن وتفادي الخلاقات بين الناس أو حلهـا وتبسيطهـا فـي حـال نـشـونـهـا، وذلك لكي لا نضيع وقتنا في الاقـتـتـال والاختلاف فيما بيننا على حقوق وواجبات كل منا ونكرسه عوضاً عن ذلك في الاستجمام والراحة؛ وعلى نفس المنوال فإن نظام ضمان الشيخوخة وضمان المستقبل والنظام البيروقراطي في الدولة والكثير الكثير من أمور هذا العالم المعقد قد أوجدها الإنسان بهدف تبسيط الأمور وتحقيق السعادة.
بيد أن الهدف السامي إلى تحقيق السعادة قد غاب عن الأنظار في كثير من الأحيان: وهكذا فقد تحول حلم الضمان المالي لتأمين الراحة في الشيخوخة إلى صراع مقيت بين الأجيال والطبقات على توزيع الثروة القومية؛ وكذلك فإن ملكية المنزل قد أضحت مصدر الكثير من الأعباء اليومية التي تملأ حياة مالك البيت وترهقها؛ ناهيك عما آلت إليه البيروقراطية التي وجدت لتسهيل أمور المواطنين فأضحت عائقاً في وجههم تعقد أمورهم وتعرقلها .
إذا فقد نتج عن السعي إلى التبسيط والبساطة في كثير من الحالات صرح من التعقيد ينمو ويتضخم باطراد. إن ما يحاول طريق التبسيط فعله في هذا السياق هو إعادة الأمور إلى نصابها وتصحيح وجهة هذا التطور الخطيـر نحو هدف الحيـاة الـحـقـيـقـي، ألا وهو البساطة الحقيقية التي ينعكس فيها معنى الحياة المليئة بالسعادة والنضوج على نحو من الهدوء والروية والرزانة والرصانة.
قد يبدو هذا الهدف غامضاً ومليئاً بالتناقض بالنسبة لشخص يمر بمرحلة من التعقيد والضياع، إذ يظن أن حل مشكلته لا بد أن يكون أكثر تعقيداً من المشكلة ذاتها، لا أبسط ولكن توق الإنسان في اللاشعور وحاجته الماسة إلى البساطة يكونان أعظم ما يمكن عندما يصل التعقيد الذي يحكم حياته إلى ذروته.
يكمن جـوهـر طـريق التـبـسـيـط في أن يقـودك إلى شق درب نظيف وواضح المعالم في الفوضى المسيطرة على كل مجال من مجالات حياتك وإلى استيعاب مبدأ أساسي، الا وهو أن هناك طريقة أسهل وأبسط وأجدى من طريقتك في معالجة أمورك! وهكذا فإن العودة إلى البساطة لا تعني ولا بحال من الأحوال رجـوعـاً إلى الوراء، ولا هي حنين إلى الماضي ولا هي "رجوع إلى الطبيعة على طريقة روسو Rousseau ، إنما يبحث طريق التبسط عن البساطة الكامنة في داخلك والمنبسطة أمامك تنتظر أن تقطفها بيدك: ولا يمكن استيعاب البساطة في جوهرها قبل الضياع في مرحلة التعقيد، لذلك يحثك طريق التبسيط إلى الاستفادة من خبراتك الحياتية الخاصة والتعلم من أخطائك السابقة: فالبساطة إذا ليست سلعة يمكن شراؤها جاهزة، بل هي ما نحصل عليه بعد مسيرة مثيرة وشخصية جداً؛ إنها أغلى ما نفوز به في نهاية رحلة طويلة، وهي الهدف من هذه الرحلة ـ وإن لم تنته الرحلة بالوصول إلى البساطة.
تتجه الرحلة من الخارج إلى الداخل: حيث يبدأ طريق التبسيط بترتيب مكتبك وبيتك، مروراً بتنظيم أمورك الماليـة وتنظيم وقتك، متابعاً إلى العناية بصحتك وتحسين لياقتك الجسدية والنفسية، ومن ثم إلى تصحيح علاقاتك الاجتماعية بأهلك وأولادك وأقربائك ومعارفك وبشريك حياتك، وصولاً إلى معالجة مشاعرك وأحاسيسك التي هي جوهر حياتك وشخصيتك.
اضافةتعليق
التعليقات