في سديم الزمن تعانقت الأرواح الهائمة، تلاشت غفلة العقل بين أمواج الهوى، جوى ماس في خمائل القرب، إنه الشوق سرّحه الفراق فغدى واحة ترفل فيها أسراب العاشقين.
تصرّمت أعوام مذ آخر لقاء جمعهما، أعوام لا تقاس بأعوام الدنيا بل هي قرون في حسابات الوله.
- تغيّرت ملامح وجهك وقرّت بشاشتك لم تمسسها كالحات الليالي.
- أشعر بأني وليد الساعة، ما ألطف هذا الشعور.
-أرغمتني الظروف على السفر، لم أظفر بفرصة لزيارتك.
لم يكونا صديقين عاديين، أرحام المواكب أنجبتهما، وشبّا ينهلان من سلسبيل الولاء.
ساقت الأقدار المهندس (زين) لرحلة دينيّة تعرف فيها على (مؤيد) العشريني ذي العضلات المفتولة، تقاسما أدام الفكر وحلقا في سماء المبادئ الحقة.
شمس العاصمة أنضجت علاقتهما, أمضيا جل وقتهما فيها، ظنون الناس نسجت حولهما شبكة من الإشاعات بأنهما أخَوان لا محالة، كان الأمر يجلب لهما بسمة وضاءة، نعم بالتأكيد، ليست الدماء وحدها من تحدّد الأخوّة، فوحدة الرؤى والمشاعر تزيد قوة على وحدة الدماء.
توالى الليل والنهار كلٌّ يفرش بساطه ليسحبه الآخر، إشارات غريبة أرقت فؤاد زين فلم يجد بداً من مفاتحة صديقه بها.
-أراك تائهاً، ارح قلبك ببوح خفي فأنا بئرك الذي لا قرار له.
- ما الذي تعنيه؟ رد مؤيد بحدّة تنذر بفورة غضب قادمة.
- ألم تلحظ تغير أحوالك في الآونة الأخيرة؟!
لم ينبس مؤيد ببنت شفة، فضحت نبضات قلبه المتسارعة عصبيته، فقد بدت كقرع الطبول.
استأنف زين الحوار بسكينته المعهودة:
- أنسيت أني مرآتك يا مؤيد؟ لن أعكس لك إلا الحقيقة، مذ شرعت بتعاطي تلك السموم وأنت شخص آخر لا أعرفه.
- إنها مجرد حبوب.. رد مؤيد
- إنك أنضج من أن ألقي عليك خطبة بأضرارها.. قال زين وهو يهمس لصديقه ممسكاً زنده.
أجاب مؤيد متهكماً:
- كفاك تقمّصاً لدور الورع التقي، دعني وشأني، لست مراهقاً تلقي عليه نصائحك البالية.
جرفت مؤيد تيارات صادفها في المقاهي، زين له أخلّاء السّوء ابتلاع أقراص تأخذه إلى عالم طوباوي ساحر.
لم يقو على نفض غبار الهجران، بالكاد يستطيع تناسي (ريم) لقد هجرته لأنه متدين أو بالأحرى معقد كما كانت تسميه، هل أصبح الدين عارا على الفتى؟! هل يُرفض الشخص لارتياده المساجد وصحبته للأخيار؟! تساؤلات عدة أدخلته في زوبعة عقدية هُزم أمامها، كل مبادئه، قيمه، وحتى إيمانه وضعها في قارب الإنكار وقام باحراقها!! أرمدت بصيرته غشاوة الانكسار، ليس أمراً عجيباً فبعض الصدمات ينوء بحملها أقوى حملة الأثقال.
الأقراص أصبحت خليلته اليوم، لا تبارحه ولا يُؤثر عليها أحدا، سكّنت آلامه تسكيناً مزيفاً، خدّرت كل شيء حتى حبه لخطيبته، أيام انتظاره لتخرجها، ساعات تلظيه وهو ينتظر جواب أهلها، وقع الهجر عليه كصاعقة، لم تُرده قتيلا ولكن أسقطت وهج إيمانه صريعاً، ذاب كحبة سكر في فنجان البلاء.
قبل هذا درج الصديقان على الخدمة في حسينيّة تبرع مجموعة من الشباب الرسالي ببنائها، مهمة إعداد الطعام كانت متعتهما، وكان لزين السبق في ميدان إعداد (الشلة)، فهو الأكبر سناً والأكثر خبرة ، لم تكن مجرد طبخة ، كانت درساً فلسفياً يتسامر به الصديقان ليلةً كاملة.
- انظر يا مؤيد كلّ نوع من الحبوب له دوره في إضفاء نكهة معينة، إن غاب أحدها فسيخلّف ثغرة كبيرة، كذلك الناس يا صديقي لكلٍّ منهم دور في الحياة لا يحل محله أحد.
أجاب مؤيد مكملاً حديث صديقه:
- وكذلك الملح إن زاد، أصبح الطعام أجاجا لا يستساغ ، كما لو زدت من ملامتك لصديقك، فكثرة اللوم مكدرة بين الإخوان.
- هذه العصا شبيهة بالبلاءات النازلة، إنها تقلب عالي القدر سافله، قد ننزعج عند حضورها لكنها مهمة؛ فلولاها لكنا في سكون مميت لا يُمحَّص فيه الصالح من الطالح.
التقت عيون الأصدقاء وبسماتهما، يا لنا من مجانين ماذا لو أنصت الناس لحديثنا هذا: قال مؤيد وهو يهز بيده.
_ لرائحة الشلة سحرها الخاص يا أخي، لاسيّما في ليلة استشهاد الإمام السجاد عليه السلام: قال زين
كثيراً ما جذبه كتاب الحقوق، مذ بلغ أشده وهو شغف بمعرفة كل ما سطره إمامه الذي سمي باسمه تيمنا، لم يكتف بقرائته وحفظه بل عاهد نفسه أن يطبق كل يوم حقا من تلك الحقوق الخمسين، وكثيراً ما أُزعج مؤيد بكثرة نصحه، وسبقه بالفضل ما وجد إليه سبيلا، محاولا بذلك تطبيق حق الصديق.
بينما كانت الشمس تضفر جدائلها الذهبية، دأب الصديقان على الذهاب إلى النادي الرياضي، هرولا كل صباح على أنغام شحيحة لزقزقة العصافير، قطّعت أصوات السيارات أوصال نغماتها.
تدريجيا أخذ الاعياء يرفرف بأجنحته فوق كاهل مؤيد، بدا كشبح يحوم دون هدف، بات الأمر مستهجَناً من قبل روّاد النادي!! شيئا فشيئا فُقد أثره من النادي والحسينية معا، تسربل زين الصبر شعاراً، لم يألُ جهداً في إعادته.
- يا أنا، آلمني تهوّرك في انعطافات الحياة: قال زين متأوها.
- عصي عليك أن تشعر بهذه اللذة، لذة تجتاح كل جزء من جسدك، تحتضنك لتغفو على صدر بحر هادئ: أجاب مؤيد مهوّماً بعينيه.
- إنك تجذف بيديك نحو هاوية سحيقة، أمسيت شارد اللب كئيب السحنة، زائغ النظرات.
أجاب مؤيد ونظراته تحكي عن استهزاء صريح:
- تكوّر في زوايا المساجد، عانق سجادتك، دعني أبحر بنشوتي جذلان مسرورا.
أحال مؤيد بياض سجلاته ليلاً أدهماً، لم يداهنه زين على أخطائه، أوسعه نصحاً وأشبعه احتواء لكنه أبى واستكبر.
يا لهول ما حدث!! الشرطة تبحث في ثنايا الطرقات، لقد كشفت المعلومات الاستخبارية أمر مؤيد، سرعان ما أُلقي القبض عليه بتهمة التعاطي، عُوقب بحزم ومُنع من الاشتراك في المسابقة الدّولية لكمال الأجسام، مات حلم طفولته كفراشة لم تخرج من شرنقتها.
من حسن حظه أنه خرج بأقل الخسائر؛ لم تُحمل جنازته كبائع السّم (جلال) الذي ودّع الدّنيا بجرعة زائدة.
مرارة الندم طغت على كل احساس، خلف القضبان الحديدية زهقت أمانيه الغضة، ترجلت أحلامه عن صهوة مخيّلته النديّة، تمثلت له نصائح زين، حشرجات صوته وهو يعظه تارة ويؤنبه تارة أخرى.. يا لبلاهته وحمقه!
كطير أرهقته تباريح النّأي عاد بعد الافراج عنه، نبذه الآخرون، كان متيقناً بصدر رحب يلملم شتاته، صدّق زين يقينه، لم تسع السّماء فرحته، لقد آبَ شقيق فؤاده إلى عشّه الآمن.
ما فتئ يلقّنه درسا سجاديّاً بامتياز، اختصر أبجديّات الحب وقواميس الوفاء، أعدّ له مفاجأة من العيار الثقيل،
سنوات بُعده أنعشت ضمير (ريم)، اعترفت بفادح خطئها، التمست مساعدة زين، وها هو الآن يعرض عليه أن يكون حبل وصلهما، اتسعت حدقتا مؤيّد دهشة، طأطأ ليخفي انثيال دموعه غبطة وحبورا .
تعاهد الصديقان أن يكونا نفثة تبلسم جراح التّائهين، أنشأا حسابا على مواقع التّواصل الاجتماعي رسم خارطة طريق للاقلاع عن هذا الزّعاف القاتل، تقلّد زين مَهمّة إدارة الحساب فيما كانت الزيارات الميدانيّة من نصيب مؤيّد.
نسائم اخلاصهما أبرأت العلل، بصماتهما طرّزت حياة الكثيرين، قطفا من وصايا السّجاد عناقيد اكسير النّجاة، ألهمهما أن الصّديق هبة الرّب يديم النصيحة ويغفر الزلّة ويقيل العثرة، هو همزة البدء وياء الختام، هو كبريت أحمر ما أعزّه وأندره.
اضافةتعليق
التعليقات