أسئلة حائرة تنتصب ، وأفكار تلوذ بعضها بالبعض الآخر ، ويحار العقل أي وجهة ترسو سفينه؟! .. فلا يلبث أن يعود القهقرى إلى نقطة الإنطلاق ، كل هذا يحدث حين يغدو الحديث عن وفاء أم البنين مربط الحرف ومدار البحث .
لم يكن وفاؤها وليد لحظته ، بل كان لصيقا بها منذ نعومة أظفارها.. فلقد تربّت على النجابة والشهامة والشجاعة وطيب الأُرومة، فهي وليدة الفحولة من العرب ( ليس في العرب أشجع من آبائها ولا أفرس ).
(( اختر لي امرأة قد ولدتها الفحولة من العرب ؛ لأتزوّجها لتلد لي غلاماً فارساً )) قالها لعقيل وٱنتظر الجواب.. فكانت فاطمة.
من هنا إرتأى أمير المؤمنين بأن يصاهر هذه الأسرة الموصوفة بالشجاعة والفروسيّة ، لأنّ المرأة التي ولدّتها مثل تلك الأسر لجديرة بأن تلد شجعانا وأبطالا ؛ قلوبهم كزبر الحديد ، لا يهابون المنيّة بل يعانقونها ويقذفون بأنفسهم في لهواتها ... فكان العباس وأخوته الثلاث.
وفاؤها غدا مضرب الأمثال ، فليس لوفائها حدود ٱلتقاء ، بل كان الوفاء شملتها والتضحية دثارها ، ولم تدّخر جُهدا في تربية أولادها الأربعة على الوفاء والولاء ونكران الذات وحب العترة الطاهرة... فكانوا كما أرادت: ليوث الوغى ، وفرسان الهيجاء ، وسيوف حق تجتث رقاب العِدى.
أن تتحلى بالوفاء ليس شيئا صعب المبتغى ، لكنّ الوصول إلى قمة الوفاء هو المحك ، وهو الاختبار الذي يتساقط على جانبيه الكثير ممن يدّعون وصلا بليلى ، وهم أبعد ما يكونون عن الوفاء وشيم الإخلاص والفداء .
حين تناهى إلى مسامعها خبر استشهاد ثقل النبوة في كربلاء ، بادرت بشر بن حذلم وهو ينادي في أهل المدينة بالفجيعة بسؤالها الذي يقطّع نياط القلب .. كررته ثلاثا وقد ذُهلت عن أبنائها الأربعة : أخبرني عن الحسين .. لا أريد شيئا آخر ، لقد أخبرتني بقتل أربعة من أولادي ، ولكن إعلم أنّ جميع أولادي ومن تحت السماء فداء لأبي عبد الله الحسين.
بالله عليك يا بن حذلم فقط أخبرني عن الحسين!
إنه الوفاء.. حين يمشي على قدمين!!
اضافةتعليق
التعليقات