الأثر الجميل يُغرسه في الذاكرة كفٌّ حانٍ لامس شغاف الروح فأخضرتْ وأثمرتْ وبقيتْ نكهة حلاوتها استثنائية، وهذا الأثر قد يبقى صاحبه على تواصل مادي أو ينقطع بصورة أو أخرى، عالم الصداقة من أكثر العوالم اتساعا وقربا، حتى اقترن دين المرء بخليله، تأثيره الكبير ذاك أعطاه هالة من العمق، بدون هذه الهالة تكون العلاقة تندرج تحت خط السطحية والذي لا يمكن عقد الثقة عليه لأنها ببساطة ضوء مؤقت يخفت لننعى ظلامنا وقد نتقبله ظنا بلا وجود للنور!.
تنعقد وتُفك الصداقات وقوامها إما المقاعد الدراسية_ وهذه غالبا ما تنتهي بانتهاء تلك المقاعد إلا إذا كانت وفق قواعد رصينة_ وإما القرابة _فلها أسباب انتهائها _ والآن تضاف لها مواقع التواصل، وهذا النوع من الصداقات فيه عدة احتمالات الخسارة أرجحها.
هناك معايير عديدة للاختيار لكن أجملها وأكثرها دقة تلك المعايير التي رويت عن أمير المؤمنين عليه السلام: (لا يكون الصديق صديقا حتى يحفظ أخاه في ثلاثة في نكبته وغيبته ووفاته) وعنه أيضا: (إنما سمّي الصديق صديقا لأنه يصدقك في نفسك ومعايبك؛ فمن فعل ذلك فاستنم فإنه الصديق) و(من لا يحتمل زلل الصديق مات وحيدا) (إن غضب عليك إخوانك ثلاث مرات فلم يقل فيك شرا فأتخذه لنفسك صديقا).
ومن القصص الجميلة، يُحكي أن في يوم من الأيام خرج الامير يتجول في أحد اسواق مدينته وهو متنكراً في زي رجل بسيط، وخلال تجوله مر بتاجر وابنه، فسمع بينهما حوار لفت انتباهه بشدة، حيث سأل التاجر ابنه: كم صديق لديك يا بني؟ فأجابه الولد: لدي اربعين صديقاً، استغرب التاجر كثيراً من رد ابنه وقال له: كيف هذا؟ لقد سار عمري خمسين عاماً يا بني وليس لدي سوي صديق ونصف، استغرب الامير من كلمة التاجر وقرر أن يفهم معنى كلمة صديق ونصف.
عاد الامير الى قصره وأمر الحراس بإحضار التاجر ليتعرف على سر كلمته، وعندما حضر التاجر أمام الامير، قال له الامير لقد سمعت اليوم الحوار الذي دار بينك وبين ابنك واريد منك أن تشرح لي مغزاه، وما قصة الصديق والنصف، قال التاجر: لن اشرح لك بالكلام يا سيدي الامير، ولكنني سأجعلك ترى ما أعني بعينك، ثم طلب التاجر من الامر ان يعلن في المدينة انه سيتم اعدامه الجمعة القادمة، وبالفعل امر الامير النادي أن يتجول في جميع انحاء المدينة ويعلن أن هذا التاجر سوف يعدم الجمعة القادمة.
جاء أحد اصدقاء التاجر إلى الامير وقال له: يا سيدي انا مستعد ان افدي صاحبي بنصف مالي، فقال له الامير ولكن هذا لا يكفي، سيتم اعدام صاحبك، فقال له: يا سيدي انا مستعد ان افديه بكل مالي، فقال له الامير: لن يشفع مالك له سوف يتم إعدامه، نظر الصديق الى التاجر وقال له: يا صديقي لقد فديتك بكل مالي ولكن دون جدوى، هل وافيت لك حقك؟ فقال التاجر: نعم فعلت، شكراً لك، انسحب الصديق من القصر، وبعد لحظات دخل صديق آخر للتاجر يأتي من بعيد ويقول للامير: سيدي ليس هو الذي ارتكب الذنب انا الذي فعلت، انه برئ ولم يخطئ.
نظر الامير في دهشة الى الرجل وقال له: اذن سوف يتم اعدامك بدلاً من التاجر؟ فقال له الصديق: نعم ليكن يا سيدي سأعدم مكانه انا المذنب الوحيد، فطلب الأمير أن يتم تجهيز المكان لإعدام ذلك الرجل وعندما وصل الى لحظة الاعدام سأله: هل تتراجع عن موقفك؟ قال الصديق: لا لن اتراجع، انا المذنب وصديقي التاجر برئ، عندها تدخل التاجر واعتنق صديقه وقال للأمير: هل عرفت يا سيدي ما أعني بصديق ونصف؟ فإن نصف الصديق سيفيدك بالمال إن استطاع، اما الصديق فلن يبجل عليك حتى بروحه، هذا هو مفهوم الصداقة.
لذلك ليس كل من هو قريب عليك صديقك، أختيار الأصدقاء من أصعب أنواع الاختيار، ففي كل يوم تكشف لك المواقف وجوه أصدقائك وترى النقي منها والمزيف.
ولو بحثنا حول في كتب علماء النفس أو حتى في التنمية البشرية نجد من أهم المشتركات_الصارمة_ والتي يؤكدون عليها دائما هي:
1_ المستوى العقلي: فمن الضروري جدا أن يكون هناك تشابه في تلقي العقل للمعلومة وفهم ما ورائها، لأن اختلاف أحد الأطراف يؤدي إلى احباط الطرف الآخر.
2_البيئة: من الضروري الانتماء إلى نفس البيئة الفكرية والدينية وحتى المعيشية حتى لا يشعر أحد الأطراف بالدونية بقصد أو بغيره.
3_الاهتمامات: ضرورة مشاركة نفس الاهتمامات تقرب المسافة أكثر بين الصديقين، وعكس ذلك قد تخلق فجوة ما.
4_الخلق: انتقاء شخص صاحب خلق رفيع لأن عكس ذلك يوقعك في مشاكل جمة، أو تصبح نسخة مكررة عنه.
وهناك مجموعة من الأصدقاء ينهى الامام علي عليه السلام مصاحبتهم فيقول في وصيته للإمام الحسن عليه السلام (يَا بُنَيَّ، إِيَّاكَ وَمُصَادَقَةَ الْأَحْمَقِ، فَإِنَّهُ يُريِدُ أَنْ يَنْفَعَكَ فَيَضُرَّكَ، وَإِيَّاكَ وَمُصَادَقَةَ الْبَخِيلِ، فَإِنَّهُ يَقْعُدُ عَنْكَ أَحْوَجَ مَا تَكُونُ إِلَيْهِ، وَإِيَّاكَ وَمُصَادَقَةَ الْفَاجِرِ، فَإِنَّهُ يَبِيعُكَ بِالتَّافِهِ، وَإِيَّاكَ وَمُصَادَقَةَ الْكَذَّابِ، فَإِنَّهُ كَالسَّرَابِ الظمآن في الصحراء فيحسبه ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً، يُقَرِّبُ عَلَيْكَ الْبَعِيدَ، وَيُبَعِّدُ عَلَيْكَ الْقَرِيبَ.
في مسيرتي الحياتية وجدتُ أجمل الصداقات، وأكثرها تفهما، وأمتنها بناء_بعد الأخذ بما سبق ذكره_ الصداقات التي تُكلل بحب الحسين عليه السلام، تلك الصداقة التي عمادها خدمة تلك القضية الكبرى، لا تتعرض للهدم بسهولة لأنها قائمة على قضية تاريخية ممتدة إلى عالم الآخرة لتكون هناك ثمرتها الناضجة، فهي التي تتميز أوراقها دائما بالعطاء لان جذورها تغذت على ذلك، وبالوفاء لأنها تتلمذتْ في مدرسة أبي الفضل عليه السلام، وقوة الإرادة مستلهمة ذلك من علي الأكبر، والصبر من منبعه وجبله السيدة العظيمة، والرقة من كفي الصغيرة التي تفترش لأبيها مصلاته، والتفاني من الأصحاب، فضلا عن العقل والعلم والحكمة وغيرها من الصفات التي تربى عليها أبناء المجالس الحقة، فخير الأصحاب من تُشاركهم شاي مجالس العزاء.
اضافةتعليق
التعليقات