يقول الدكتور "جيرالد كابلان"، أستاذ علم النفس: إنّ الإنسان يتغير باستمرار منذ اللحظة التي يرى فيها النور حتى نهاية رحلة الحياة.. ولكن عملية التغيير ليست دائماً ثابتة مستقرة.. فهي أحياناً قفزة إلى الأمام، وهي في أحيان أخرى انتكاسة إلى الوراء.. وكما يتغير اتجاه الريح بين ساعة وأخرى من شروق الشمس حتى غروبها وفي ظلام الليل، فتتكاثر الغيوم وتهطل الأمطار، أو تهدأ الطبيعة ويصحو الجو، وتغرد الطيور.. أيضاً نجد هذه التغييرات مع الإنسان، الزوجة السعيدة القانعة بحياتها تصاب فجأة بانهيار عصبي! الصبي المراهق المضطرب يتحول إلى رجل صغير يقدر مسؤوليات الحياة! العامل المجد يشعر بأيدي رؤسائه تطبق على عنقه! الفتاة الصغيرة الطائشة تتزوج وتصبح أمّاً مثالية!.
كيف يمكن أن نفسر التغييرات المفاجئة التي طرأت على هذه النماذج من الناس، إلى أفضل، أو إلى أسوأ.. ما الذي حدث فأضاء الطريق أمام البعض وجعل البعض الآخر يضل طريقه؟
يقول الدكتور كابلان: "ليس صحيحاً، كما يعتقد الكثيرون، أنّ كل حادث سعيد يولد السعادة، وكل حادث تعيس، يولد التعاسة. هذه النظرية السائدة ليست قاعدة نستطيع أن نستند إليها في تفسيرنا لهذه التغييرات المفاجئة التي حدثت في شخصية هؤلاء الناس وسلوكهم.. فقد يحدث العكس تماماً، قد يكون الحادث سعيداً ولكن الذين يعيشونه ليسوا سعداء.. لا لأنهم لا يشعرون بالسعادة.. ولكن لأنهم يحسّون أن دورهم الجديد مع هذا الحادث السعيد أكبر من قدراتهم وطاقاتهم... أو لأنه فاق كل تصوراتهم وتوقعاتهم.. مولد أول طفل في الأسرة مثلاً، أو أول عام في الجامعة، أو هبوط ثروة كبيرة على أسرة فقيرة.. أحداث سعيدة كلها، كما نرى، ولكن البعض منا لا يتحملها.. إنه سعيد بها فرح لها.. ولكنه يشعر وكأنه يتشقق، تماماً كما يحدث للجدار عندما ينوء بحمله الثقيل! وهكذا يصاب صاحبه بالتوتر! وفي الأزمات أيضاً، حيث يستسلم البعض ويركنون إلى الهزيمة، نجد أن هذه الأزمات نفسها قد ولدت قوة عند البعض الآخر.. قوة غير طبيعية، وغير متوقعة، لا لأن صاحبها كان أصلاً "قوياً" فاستطاع أن يصمد، ولكن لأنه شعر في هذا الموقف الجديد الذي نشأ بعد هذه الأزمة، أنه أمام تحد أكبر منه، وأنه لا بد وأن يكون في حجم هذا التحدي حتى يستطيع مواجهته وقهره!.
ويروي الدكتور كابلان قصة الصبي الصغير الذي ذهب والده إلى جبهة القتال.. كان وقتها في الخامسة عشرة من عمره، يعيش مع والدته وشقيقته الصغرى.. وكان صبياً متوسط الذكاء لم تكن تقارير المدرسة توحي بشيء أكثر من أنه يحرص على تأدية واجباته المدرسية، وأنه يحاول قدر المستطاع أن يستوعب ما يلقيه عليه المدرسون من علوم جديدة عليه.. ولكنه لم يكن يقف دائماً في صفوف الناجحين!
وفي مساء أحد الأيام عاد من مدرسته كعادته، وكانت مفاجأة له عندما وجد أمه تبكي.. ماذا حدث؟ لقد استشهد أبوك في الحرب يا بني.. إنني خائفة.. خائفة من المستقبل، من الحياة في هذه الوحدة التي أصبحنا نعيش فيها نحن الثلاثة بعد غياب أبيك.
وأخرج الصبي منديله من جيبه، وراح يجفف به دموع أمه.. لقد كانت تبكي لأنها في تلك اللحظة أحست بأنها تعيش في أرض غير أرضها.. لقد امتلأت مشاعرها وأفكارها بذكريات أزمات مرت بها في الماضي ورسبت في أعماقها مع القلق والخوف.. ولكنها في هذه المرة تواجه أزمة مختلفة أزمة بلا حل، فقد ذهب رجلها ورفيق عمرها، ولن تجد السلوى في غيابه أبداً.. عزاؤها الوحيد في هذه الذكرى التي تركها لها.. في الأبناء الذين ترى فيهم صورة الرجل الذي تزوجته وأحبته.. ومدت يدها تحتضن بها رأس ابنها الذي يجلس بجوارها.. وكان هو الآخر يبكي، فهو لم يفقد أباه فحسب، انه يشعر أنه فقد العالم كله بعد رحيله، فهو الذي كان له أباً وأخاً وصديقاً.. أين يجد كل هؤلاء في رجل واحد يبادله الحب.
أغلق باب غرفته عليه، ووقف أمام صورة أبيه وراح يحدثه: "أعدك يا أبي، بأنني سوف أكون رجلاً.. سوف أحقق لك كل أمانيك.. وسوف أعود إليك دائماً هنا في هذه الحجرة لكي أحدثك وأروي لك ماذا صنعت بنفسي، وماذا صنعت بي الحياة.. وستكون دائماً فخوراً بي! لن أقف في طابور الفاشلين من اليوم".
منذ تلك الليلة، لم تعرف الدموع طريقها إلى عيني الصبي الصغير.. فقد واجه الموقف الجديد، كما يواجه أقوى الرجال، لقد أصبح رجلاً!
وانقضت عشر سنوات عندما خرج أهل البلدة الصغيرة يحتفلون.. ما المناسبة؟ لقد تخرج الصبي الصغير في الجامعة وأكمل دراساته العليا، وأصبح محامياً يحمل درجة الماجستير، وفي حفل تسليم الشهادات.. كان هناك ثلاثة يقفون في انتظار دورهم في مقدمة طابور المهنئين الأم الفخورة بابنها، ثم شقيقته التي كبرت وأصبحت عروساً، وخطيبها الشاب الذي زامله أيام دراسته العليا أو الثانوية التي كان حظه فيها قليلاً مع النجاح، إلى أن كانت تجربته المريرة مع رحيل والده.. في ذلك اليوم منذ عشر سنوات، وقف الابن وحده في مواجهة هذا العالم الغريب.. إنه لم يطلب مساعدة أحد، وحتى عندما كانوا يعرضونها عليه ويقدمونها له، كان يرفض أن يمد لها يده، لقد اعتمد على نفسه، وراح في هدوء يشق طريقه في مدرسته في الجامعة، سنة بعد أخرى، حتى أتم تعليمه.. لم يكن هناك أحد وراءه يدفعه.. كان الحافز دائماً هو رغبته في أن يكون رجلاً جديراً بحب وصداقة الرجل الذي عرفه في طفولته وصباه..
من كتاب (كيف تغير حياتك) للسيد حسين نجيب محمد
اضافةتعليق
التعليقات