إن الشبكات الاجتماعية ومواقع التواصل مثل (تويتر وفيسبوك وإنستاجرام)، هي مجرد مواقع للقاء الافتراضي وتبادل الآراء؛ لا أكثر. فيها يتكون عقل جمعي من خلال المنشورات المتتابعة، هذا الفكر التراكمي السريع الذي يبلور - بسرعة وبدقة - موضوعاً محدداً، نجح في اختصار مسيرة طويلة كان تبادل الفكر فيها يتطلب أجيالاً من التفاعل (المناظرات والخطابات والمراسلات والكتب والنشر والتوزيع والقراءة والنقد ونقد النقد). ورغم كل هذه الفرص، فقد نجحت هذه المواقع في ترميز التافهين، كما يقال، أي تحويلهم إلى رموز.
ما يجعل من كثير من تافهي مشاهير السوشال ميديا والفاشينستات يظهرون لنا بمظهر النجاح، هو أمر يسأل عنه المجتمع نفسه، الذي دأب على التقليص التدريجي لصور النجاح التي تعرفها البشرية ككل (العمل الجاد والخير للأهل والمواطنة الصالحة وحسن الخلق والأكاديميا والآداب والفنون والرياضة إلخ)، فألغاها جميعاً من قائمة معايير النجاح حتى اختزلها في المال فقط، فلم يُبقِ إلا عليه وحده معياراً. لقد حذرنا من ذلك كثيراً من يُنكر الآن أن المشاهير والفاشينستات قد حققوا النجاح، فعلاً، وفقاً لمعيار المال؛ وهو المعيار الوحيد الذي وضعه مجتمعنا نصب أعين شبابه؟
الفن
بخلاف ما هو دارج من الإشارة إلى عروض الموسيقى الرخيصة باعتبارها فناً، فإن ما نراه الآن ليس كذلك. إن سبب الخلاف القائم حول كنهه هو أن الناس صاروا ينظرون للفن الساقط والقبيح ويضربون به المثل على الانحدار والقبح. والحقيقة أن الأمر يتمثل في الخطأ في التصنيف، فهناك معايير جمالية للفن في العلم والفلسفة (وهو علم يدرس ضمن فلسفة الجمال). لقد غيّبنا علوم الجمال من موسيقى وفن ومسرح ورسم لقرون طويلة، وها نحن نعاني تبعات هذا التغييب الآن، فما نمر به حالياً هو الضريبة التي ندفعها نتيجة السنوات الطويلة التي مضت في التضييق على الفنون.
ويتعلق الأمر بفهم طبيعة الفن. فالفن يكاد يكون المجال العملي الوحيد الذي يُقبل فيه الإسقاط تجريبياً، من دون أخذ الضمانات المنهجية في الاعتبار، (حتى الحرفة، لكونها تتطلب اتباع الأصول والقواعد، لا تقارب الفن في ذلك). فعروض الأزياء مثلاً - لا سيما فيما تتضمنه من شطحات فنية وملابس استعراضية غير قابلة للارتداء عملاً - هي أكثر من جنون فني أو عرض مظهري أو إغراق في الجماليات الشكلية. فهذه العروض هي استعراض عضلات حقيقي للحدود الفنية القصوى لذهنية المصمم. الأمر، في عمقه، هو تعبير سوسيولوجي آخر عن النزعة الفردية individualism في أكثر تمظهراتها تحدياً ونرجسية (المفارقة هنا أن ما يبدأ من هذا المنطلق الفردي ينتهي، في آخر الأمر، إلى تطبيق جمعي/ قطيعي لهذه الأفكار متمثلاً في: تكالب الجميع على الموضة؛ تفاهة أخرى).
ولكن الفن - إن فُهِمَت فرادته - شكّل دفقة روحية رفيعة. من ذلك أن للرسام السويسري بول كلي Paul Kee (1940-1879) لوحة صغيرة بعنوان الملاك الجديد Angelus Novas رسمها عام 1920. اشترى الفيلسوف الألماني فالتر بنجامين Walter Benjamin (1940-1892) هذه اللوحة في العام نفسه، وعلقها في مكتبه، ليتبين فيما بعد أنها مثلت مادة حفازة حقيقية لفكره.
لقد تمثلت قراءة بنجامين Benjamin للوحة في أنه رأى فيها ملاكاً ينظر إلى الأمام والخلف، معاً، وبذلك فهو يتأمل في تاريخ حافل بالحروب والدمار وفي ما هو آت أي أن ملاك التاريخ هذا يعبر عن ذاكرة لماضي البشرية الحزين وعن قلق على مستقبلها الغامض في الوقت نفسه عندما كتب بنجامين أطروحاته الشهيرة حول مفهوم التاريخ كان مصدر إلهامه في العديد منها هذه اللوحة الصغيرة..
السياسة
يشكل العمل السياسي - بما ينطوي عليه من سلطة وخطاب ومال وجماهير - المساحة الخصبة لازدهار نظام التفاهة. وتمثل الديمقراطية، بما تنطوي عليه من مراكمة لكل هذه العناصر بالضرورة المجال الأخطر لذلك.
ومن أهم الانتقادات التي توجه إلى الديمقراطية باستمرار، والتي لا تخلو من صحة هو الخطر المتمثل فيما يمكن أن تؤدي إليه من طغيان الأغلبية على الأقلية. ذلك أن الدساتير ما وُضِعَت إلا لحفظ حقوق الأقلية قبل الأغلبية، فالأغلبية هي تكتل وتفاهم لا يُخشى عليه من إجحاف، وإنما الأقلية هي من يحتاج إلى الضمانات السياسية كما تقدمها الدساتير إن القول بغير ذلك يعني أن الدولة ما هي إلا أداة بید الأغلبية لقمع الأقلية، وبذلك فإن القانون يتم تجييره لأهداف مختلفة، مع فصله عن العدالة.
من كتاب (نظام التفاهة) لـ د.آلان دونو
اضافةتعليق
التعليقات